أتذكر بعضا من "الحماس" الذي كان يرافق أبي وأمي وهما بانتظار حفل فيروز الصيفي ، وأحلم أن لا ينتشر "الضجيج" اللوني فوق جسدي، فتصبح الهمسات حالة مستحيلة، أو تهوي الموسيقا إلى مساحة كلمة ممجوجة وغير قادرة على اختراق أذني، فأنا لست مولعة بالتراث وغير قادرة على احتمال "مابعد الحدثة"، وربما تحشرني "المفرقعات" القادمة من الفضائيات فأفكر بأن الغناء يحتاج لزمن مختلف، فلا أرى "هبوطا" في الأغنية، ولاأاستطيع تلمس "جموحا" في جنون "الفيديو كليب" الذي يقذفني إلى زوايا الغرفة الأربع.
ربما مازلت أحلم بفيروز عندما كانت تقول "ظمأ الشرق فيا شام اسكبي"، لكنني مضطرة لتحمل كلمات جديدة عن "دمشق" تبدأ "بإي والله.. حيا الله"، وبفوضى تختلط فيها "العراضة" مع مساحة من الزمن المجهول، ومن الوجوه التي لا تعرف جغرافية غير أزقة حارتها، فأنتشي لأن المحلية التي نملكها كسرت حتى حاجز "ما بعد الحداثة" وطورت نفسها مع صور السيوف والبنادق، لتقدم مشهدا مرئيا لا أعرف من أين بدأ وكيف بدأ.
هي الشام كما هي منذ أن عرفها البعض في ستينيات القرن الماضي، فغنت فيروز "شام أهلوك أحبابي"، أما الكلمات التي تقطر علينا اليوم فتنطلق من "الرقبة السدادة"، وتتجه نحو "عيون الزعيم"، ويتم إغلاق باب الحارة على مساحة الوجوه الجميلة، او على العيون الجارحة والقادرة على استثارة الحياة ودفعها نحو المزيد.
حتى الوطن دخل ما بعد حداثته الخاصة، وأصبح البعض قادرا على رسمه في حدود الجمال المخنوقة بين أربع حيطان وكلمات تحمل مفردات سقطت لكننا قادرون على إحيائها، فهل يمكن أن نقدم جملا إضافية أو منع الأجيال من التعبير بمفردات سنبقى عاجزون عن إبداعها طالما ان صورة "النمس" في باب الحارة تنتج ثقافة داخل أغنياتنا الوطنية بنسختها المعدلة وفي "باب الحارة" و "ليالي" الصالحية".
لا يعرف البعض انه يقدم ثقافة مخنوقة أو متصالحة مع واقع "انهيار اللغة" لتصبح لغة الحواري العاجزة عن التعامل مع بناء متكامل من العلاقات البشرية والمصالح وحتى البحث العلمي، ولا يعرف البعض أيضا أننا عندما ننتج ما يحاكي "طوباوية" لم تظهر في تراثنا فإنه يحرم الأجيال من ابتداع لغة التواصل فيما بينها، فالثقافة المرئية لها لغتها ولكنها لغة بصرية قادرة على النفاذ، وليس على تجسيد رموز تشبه إلى حد بعيد زمن "قال الراوي يا سادة يا كرام".
اللغة التي أبحث عنها كتب بها "البتاني" قبل قرون نظريته في شكل السماء وحركة النجوم، وهي أيضا وبعد قرون دفعت طاهر الجزائري كي يضع مناهج مدرسية للجميع، بعد ان أصبح العلم محشورا داخل العمائم، وهي أيضا تفكير في العشق قدمها نزار قباني وحالة من التماهي مع الأرض عند محمود درويش، وهي لغة أعادت تصوير الجنس في "برهان العسل" لـ"سلوى النعيمي"، و لغة التفكير والابداع عند أدونيس ،فهي لغة لا تصبح فيها "الرقبة سدادة"، ولا يغدو فيها الصوت العالي رمزا، أو ما يسمى بلغة الدمشقيين بـ"البوجقة" حالة معبرة عن ثقافة.... لغة تنقلنا إلى الزمن الجديد... هي لغة الأنثى كما لغة الذكر.... فكيف أستعيدها.