لن أدعي أن تحليل كم الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس يمكن تلخيصه بانطباع سريع، فالمسألة تبدو متشابكة ومتداخلة مع "إرادات سياسية" وليس مجرد "جرأة" فقط، فصحيح أن الموقع في النهاية ربما يواجه وحده أي عقوبات أو حتى "انتقام"، لكنه في نفس الوقت قدم "إشارات استفهام" حول تلك القدرة في تحصيل حجم من المعلومات يعتبر "تاريخي" عن صح التعبير.
الانطباع الأول الذي تحمله وثائق ويكليكس هو في تجاوز نمطية المعلومات، فالأمر لا يبدو فقط في رغبة "مدير الموقع" فقط بتحقيق ضربة إعلامية، بل هناك مناخ إعلامي عام يدفعه نحو التفكير بهذا الاتجاه، على الأخص ان العالم لم يعد يملك مقاربة واحدة يمكن من خلالها تحديد سياسات الدول بشكل قطعي، فرغم تضخم وسائل الإعلام إلا أنها تبدو "مخنوقة" بسياسات التحرير المفروضة، وربما باختيار الكلمات وحجب المصادر، بينما طرحت ويكيليكس حالة مناقضة بشكل كلي من الأسماء وانتهاء بتفاصيل هي في كثير من الأحيان ليست سياسية وتعبر عن "آراء سفراء" فقط بشخصيات "عليا" في العالم.
الأمر الثاني الملفت هي التشابك في عصر المعلومات، فهل الوثائق المتوفرة هي من النوع السياسي والاقتصادي فقط؟ وهل هناك كميات أخرى تتعلق بالبحث العلمي، أو العسكري إن صح التعبير؟ من حيث المنطق فإن من يصل إلى مثل هذه المعلومات فهو قادر على الدخول لأماكن حساسة أخرى، لكن الوثيقة السياسية ربما تكون أقل خطرا طالما أن الجميع قادر على استخدام النتائج لفهم النوايا، فالوثائق التي تتحدث عن طبيعة أخلاقية معينة تحكم السياسة أمر ليس بجديد، أو حتى الحديث عن قذارة الحرب الأمريكية فالعالم تآلف مع هذا الواقع، لكن القفزة الحقيقية في إظهار القدرة على الدخول بأشكال مختلفة إلى "مخازن المعلومات" التي ربما ستعيد صياغة مفهوم الحرب على الإرهاب.
في أمر آخر يثير الانتباه يبدو مفهوم "التسريبات" الصحفية أمرا أصبح من الماضي، فإذا ما استطاع الإعلام الإلكتروني الاستمرار مع كسر "الحواجز" القديمة فإنه سيستغني عن الكثير من التسريبات التي تعتبرها بعض الجهات "منحة" للصحفيين، ونحن هنا نتحدث عن "فضاء إعلامي" آخر يعتبر نفسه مسؤولا عن حرية المعلومة، ففي أوروبا والولايات المتحدة من المفترض عدم وجود "حجر على المعلومة"، لكن الأمر تجاوز هذا الحد الواضح فانتقل باتجاه كسر الحسابات الإعلامية.
ربما يتضح مستقبلا أن موقع "ويكيليكس" متواطئ مع جهات معينة، وهذا أمر لا يملك أهمية، لأن ما حدث هو المهم وليس من يقف وراء النشر، فنحن أمام نقطة أساسية في الإعلام المعاصر ربما ستحدد مستقبلا مسيرة "العالم الافتراضي" ككل وليس فقط نقاط الافتراق بين إعلام قديم وحديث.