هو مجرد تفكير بشكل معاكس، فليس المهم أغراض نشر الوثائق أو الصراع على من نشرها، وفي المقابل فإن الحقائق التي تم كشفها تبدو في كثير من الأحيان نوعا من التأكيد على واقع تلمسناها حتى ولو لم نملك ما هو رسمي عليه، لكن ما قام به موقع ويكليكس يمكن النظر إليه كظاهرة مستقلة عن التفاصيل التي تضمنتها الوثائق.
المسألة تبدأ في أن العالم يخفق في تحديد صورته القادمة، وفي الوقت التي أصبح فيه الجيع يملكون تقنية التواصل المستمر فإن المشهد السياسي معاكس تماما، فالدول المارقة ازدادت خروجا عن القانون حسب وجهة النظر الأمريكية، والعالم الذي أراد له الرئيس بوش ان يصبح أكثر أمنا أصبح أكثر تعقيدا دون ان يعني هذا الأمر أننا قادرون على تجنب الإرهاب، وفي النهاية فإن "خطاب القيم" الذي ترفعه كل الدول لم يجعل المجتمعات إلا أكثر توترا، وربما قلقا من المستقبل.
نحن امام قفزة جديدة مهما كان مصدرها، وهل تم ترتيبها في الولايات المتحدة أم انها مجرد جهد استقصائي وشخصي، فما حدث يبين أن المنطقة الرمادية في العالم أكثر اتساعا مما كنا نعتقد، وأن التحكم بها يبدو مستحيلا حتى ولو كان بمقدور البعض شن الحروب او تدمير بعض المجتمعات، إلا أن الأزمة تبقى في مكانها.
في المقابل فإن تصريحات وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس قبل أيام كانت نوعا عبثيا عندما تحدث عن ان العالم يتعامل مع بلاده ليس لأنه "يقدرها"، وهذا الأمر ليس إقرارا جديدا فالمصالح السياسية منذ الأزل هي التي تقرر التحرك السياسي، لكن إعلان غيتس مخالف تماما لخطاب القيم المطروح ربما منذ تأسيس الولايات المتحدة، فهل سيغير هذا الأمر شيئا على صعيد العالم؟!
هناك مساحة "اللامتوقع" مما حدث، حتى ولو صحت نظرية أن الإدارة الأمريكية أو الصراع داخلها هو الذي سبب هذا التسريب في الوثائق السرية، لأن ما حدث نقلنا باتجاهين:
الأول إعادة تكوين العالم على مساحة الافتراضية، فالنمذجة السياسية أو الإعلامية لا تصح على هذه الوثائق، ومن الصعب اعتبار رابطة المصالح السياسية في مستوى أعلى من الثقافة الاجتماعية التي فرضها الإنترنيت وخصوصا بعض تسريبات ويكليكس، فالحدث هو على مرأى من أجيال ناشئة أو دخلت في التكوين السياسي، وهو سيفرض في المستقبل على الأقل ظهور رؤية مختلفة للطبقة السياسية لا تنفصل عن ثقافة التواصل الحديثة، فالرسالة السياسية أو الإعلامية على ما يبدو لم تعد ضرورية طالما أن هناك من يشكلها خارج التقاليد المعروفة.
الثاني أن التأثيرات الطفيفة على سطح الأزمات يمكن أن تنفذ باتجاه العمق، فصحيح أن سياسة الولايات المتحدة لن تتأثر حسب غيتس لكن من يضمن النتائج اللاحقة لعملية التسريب، وعدم الاكتراث بالمعلومات الموجود بها هو تأكيد على أن التعامل السياسية يبدأ من الشك وهو أمر ليس بجديد، لكن نهايته هي موجة شك مختلفة من الممكن أن تغير حتى طبيعة الأزمة.
في الشرق الأوسط سيكون لهذا الكلام تفسيرات مختلفة لكنها بلا شك ستعقد كثيرا من الأمور وستتشابك الاحتمالات وهو أمر يمكن مناقشته بعناوين كثيرة يمكنها أن تغير الصورة بشكل كامل بشأن التحالفات... وللحديث بقية.