بالتأكيد لن تصح حكاية، ولا حتى مسلسل درامي يعرض في رمضان، لأن الجرأة انتهت عند حدود طرح المواقف، فتراثنا الذي نكونه اليوم لا يملك سردا وهو جملة من المواقف التي نسكبها في الأعمال التلفزيونية أو المقالات، فمن يستطيع أن يرسم غزة من جديد بمكوناتها أو حتى بصورتها السياسية!

هل تجاوزت غزة "الإبداع"؟! سؤال يؤرقني منذ أن اندلعت الانتفاضة الثانية ولم تظهر ملامح ثقافة جديدة، فبقي الفن عند مرحلة السبعينيات وعند صوت مارسيل خليفة أو أغاني فيروز، فكيف يمكن أن ندخل لما حدث في غزة ونحن أمام لون واحد تريده السياسة وربما الإعلام الذي لا يستطيع أن يخرق الهدنة الدائمة مع كل أشكال "السلطة"....

في غزة أيضا لحن يسقط فجأة مع إيقاع القسوة فتبدو المخيمات القديمة "جنات عدن" على الأقل لمن هو مضطر للحث عن مساحة إضافية يستطيع فيها تحقيق "الشرط الإنساني"، فشرط الوجود يبدو وكأنه تحد دائم لا يرسمه الاعتداء الإسرائيلي فقط، ل ذلك التجاهل الذي يلف السياسة ويجعلها تبني غزة على خيال من "التسوية".

هناك "خريف" الحياة السياسية، فهي تذوي في صقيعها وربما ترفض تجديد خصبها، فتقف أمام حرارة الحياة مذهولة أو مرغمة على تجنب ملامسة حالة الدفء التي يفرضها "البقاء" برغم الموت وصور الأطفال التي انحفرت داخل الدورة الدموية، فلا يبقى من الحياة على مساحة العالم العربي إلا القليل من الحرارة التي تظهر بعد "الانفجار"، فيبكي البعض أو يختفي خارجا، لكنه في النهاية يجد نفسه في "برد" السياسة وداخل جليد القرارات والمشاريع.

لكن "الاصفرار" ربما ينتشر بفعل "السطوة" المعنوية على الأقل، فيغرق المثقفون من جديد في مساحة النسيان، وتنتهي حدود الإبداع على مقارعة "الظواهر الافتراضية"، فحتى قدرة "الخلق" باتت تحتاج لمنتج منفذ قادر على رسم ميزانية دقيقة، ولسوق لا تفوح منه رائحة النفط أو حمى "الحكومات الإلكترونية".

العجز ترسمه غزة مع نهاية العام، وربما نغرق في خديعة "التطور" أو العقلانية أو البحث عن خوف مضمر في أن يشطبنا التاريخ لصالح من لا يشاطروننا الرأي، لكننا في النهاية نسير على إيقاع واحد لا يترك لنا الوقت كي نحول المضاجعة إلى جنس والحب إلى هوى والجرأة إلى فكرة تجتاح الجميع فتكسر الصقيع.

لم اكتشف من قبل تلك القدرة على "الضمور" والاكتفاء بما هو موجود، ولم أعرف قبل غزة أن الحياة ممكنة غض النظر عن الإعلانات الطرقية ومؤتمرات تطوير الذات وتمكين المرأة وتجديد الفكر أو دفع الشباب لساحات جديدة، ففي غزة كل شيء ممكن حتى ولو كان خانقا، وفيها نستطيع البحث من جديد عن كلمة مملة من كثرة الاستخدام، فـ"الأصالة" ليست عودة للأصول، بل القدرة على تحمل الافتراق عن كل ما هو موجود حتى نعرف "أصل" الاحتلال.