تفاصيل الأزمة لا تبدأ من استهداف المسيحيين في العراق أو في مصر، فالمشكلة يمكن قراءتها تاريخيا أو حتى في طبيعة الشرق الأوسط كما ظهر عشية الحرب العالمية الأولى، وعملية "التهجير" أو الإفراغ تبدو أخطر عندما نستطيع قراءة المنطقة ضمن مشهد بانورامي يتم فيه التلاعب بالتكوين السكاني دون الحاجة للدخول في "الإرهاب" الذي يطفو اليوم على الحدث ليعطي بعدا جديدا لأزمات قادمة.

عمليا فإن التحول الأساسي ظهر مع الإستراتيجية التي شهدها عقد السبعينيات من القرن الماضي، وفي مصر تحديدا لخلق شرعية جديدة بعد ظهور أنور السادات على مسرح الأحداث، لكن الأمر لم يكن مجرد تحول تشهده مصر لأنه في نفس الفترة ظهرت تغيرات أخرى ترافق مع اتفاق السلام الموقع بين "إسرائيل" ومصر، حيث تم تحويل الصراع باتجاه الجديد وجرى القفز فوق "الاعتبارات" الوطنية أو القومية للدولة، فالشرعية التي بدأت تتأسس في العقدين الأخيرين من القرن العشرين كانت تتجه لتصفية مرحلة تاريخية إن صح التعبير.

هذا الأمر يبدو مهما اليوم حتى نستطيع تفكيك ما يحدث، لأن المسألة التي يحاول الإعلام إعطائها معاني مرتبطة بـ"الأقليات" هي في عمقها انحراف في هوية عدد من الدول داخل الشرق الأوسط، وهو أمر لا يمكن تجاهله أو وضعه في إطار عادي بعيد عن الاستراتيجيات الدولية، على الأخص أن العنوان الأساسي الذي انطلق منه الصراع ظهر في أفغانستان حيث عادت "القاعدة" لاستخدام خطاب القرون الوسطى، كما أن الولايات المتحدة خاضت الحرب بـ"روح تبشيرية" إن صح التعبير، ولكن أفغانستان نفسها ومن بعدها باكستان كانت نقطة التعبئة الأساسية في نهاية السبعينيات التي شكلت محور التحول الذي أثر بشكل مباشر على الشرق الأوسط مخلفا صراعا حول هوية الدولة بالدرجة الأولى.

هذا الإطار العام لا يشكل مبررا لما يحدث أو يضع مسؤولية ما يجري بعيدا عن المنطقة، لكنه يشكل القاعدة لتفكيك ما يجري خارج "إطار الخطاب" السائد اليوم، فالمسألة ليست في حقوق الأقليات أو "صراعا دينيا" حسب ما يريد أن يوهمنا به أصحاب العمائم في أفغانستان أو باكستان، إنما في عملية الكسر التي حدثت داخل مفاهيم الهوية، فإعادت المنطقة إلى مراحل ما قبل تأسيس الدولة، والأزمات أو النكبات التي يمكن أن تحدث لا تطال شريحة بحد ذاتها، إلا أنها في نفس الوقت تغير من التوازن الثقافي في المنطقة وهو أمر ينسجم مع طروحات "يهودية الدولة" الذي يتم التركيز عليه بشكل واضح اليوم، فعمق الصراع لا تحله "مؤتمرات التعايش" التي تُعقد سنويا، بل في البحث عن هوية الدولة الحديثة.