الكاتب : مازن بلال

في مصر هناك مجموعة من الأسئلة المحيرة، فالمظاهرات خلقت إرباكا حقيقيا لكن القدرة على التماسك ربما تكون مختلفة عما حدث في تونس، وفي نفس الوقت لا يمكن مقاربة مصر واحتكاكها الإقليمي والدولي بواقع تونس الذي كان وبسهولة يستطيع الانكفاء بسرعة، فالمظاهرات في القاهرة والسويس والإسكندرية تأتي على جغرافية ترتبط بإستراتيجية إقليمية، ورغم أنه ليس من وظيفة المتظاهرين طرح أسئلة سياسية كبرى، لكننا في النهاية سنقف أمام نوعية التحول الذي يمكن أن يحدث.

بالطبع فإن المسألة لا تعني أن هناك حسابات لما بعد مرحلة "التظاهر"، فما يهم الشارع المصري اليوم يرتبط بسلسلة طويلة إلا أنها في النهاية تمس بشكل أو بآخر الموقع الذي تم اختياره بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وعلى الأخص الخطاب السياسي الرسمي الذي قدم حالة من "التعب" أو "الانكفاء" عن القضايا البعيدة عن الجغرافية المصرية، لكن ما حدث عمليا هو ان الحياة اليومية للمجتمع بقيت تسير على نفس الإيقاع، فلم تستطع السياسات الجديدة التي أوقفت دفع أثمان الحرب ضد "إسرائيل" من تحقيق توازن على الصعيد الداخلي وهو ما يطرح أمرين:

الأول أن الموقع الجغرافي يحدد الخيارات سلفا، فمسألة الانكفاء عن الصراعات الإقليمية، ووضع 99% من أوراق التسوية في واشنطن، وتشييد "رموز" للسلام مثل منطقة شرم الشيخ لا يمكن أن يغير من الواقع الجيوستراتيجي، وبهذا فإن التخلي عن الأوراق الإقليمية أخل بالمعادلة الشرق أوسطية، لكنه في نفس الوقت لم يمنح مصر أوراقا أخرى تساعدها في الشأن الداخلي.

الثاني أن الموضوع اليوم هو ليس "محاسبة" بقدر كونه محاولة فهم لتلك المعادلة التي تم طرحها منذ أن أصبحت التسوية جزءا من النظام العربي، فالتنمية والديمقراطية وغيرها من الأهداف التي تم التركيز عليها هي ليست بديلا عن الانخراط في المعادلة الإقليمية أو حتى فهم الدور الاستراتيجي لأي دولة تجاور الصراع العربي - الإسرائيلي، فالشارع المصري الذي يهتف اليوم بشعارات سياسية داخلية سيجد نفسه بعد أي تحول أمام الاستحقاق الاستراتيجي الخاص بخياراته الإقليمية.

الأسئلة الصعبة التي تواجه مصر في مسائل التنمية والفقر والحريات السياسية ستدخل فيما لو حدث التحول باتجاه الخيارات الكبرى، لأن الخيار الاقتصادي المصري الذي برز سريعا بعد حرب تشرين لم يكن منفصلا بشكل مطلق عن نوعية التوجه السياسي أو تحديد الدور الإقليمي، وفي المقابل فإن موجات العنف التي ظهرت بشكل متلاحق من خلال "التشدد الديني" هي ليست بعيدا عن المحاولات التي حدثت للحد من التيارات اليسارية التي كان يٌنظر إليها كامتداد لحقبة سابقة.

من المفيد التوقف اليوم لقراءة "الظاهرة المصرية" دون استباق النتائج فالدولة في مصر "عريقة" وتملك مؤسسات يمكن اعتبارها الأقدم في تاريخ المنطقة، وبالتالي فإن أي تحول لا يمكن أن يقارب بأي تجربة أخرى، ولكن هل هناك "بجعة سوداء" مرت في مصر؟ بالتأكيد... فالتداعيات التي تحدث تباعا هي التي خلقت "شارعا مصريا" يسعى لشرعية جديدة، لكن قدرة مصر (وليس السلطة في مصر) على التعامل مع التداعيات ربما ستكون مختلفة عن أي دولة أخرى، لأننا نتحدث عن "ثقافة" تملك إرثا يشكل رقما صعبا في أي تغير.