الكاتب : مازن بلال

الثمن الباهظ في الثورة الليبية يمكن أن يشكل نقطة تحول حقيقية خارج التنظيرات التي يتم ترويجها اليوم، فما نتحدث عنه كـ"موجة عربية" لا يدخل في سياق ما تم الحديث عنه في نهاية ثمانينات القرن الماضي "موجة ديمقراطية" اجتاحت شرقي أوروبا، فالمقصود هو قراءة ما يجري وفق سياق مختلف عن التفكير السياسي السائد اليوم، والذي يقوم بعملية فصل مطلق ما بين "السياسة الرسمية" وحركة الشارع.

عمليا فإن ما وفرته "الثورات" في شمال أفريقيا من تونس إلى مصر ثم ليبيا يشكل مساحة حقيقية لإعادة فهم القضايا العالقة منذ أوائل القرن الماضي وحتى اليوم، فالاحتجاجات التي تطلق مطالبها باتجاه واحد، تترك وراءها نتائج قرن كامل وربما أكثر من ذلك فإنها تحاول أن تجد طريقا مختلفة لتنظيم القضايا التي سيطرت على المراحل السابقة ابتداء من مسألة الهوية ومرورا بفلسطين وانتهاء بالديمقراطية، رغم أن الأخيرة هي التي تظهر على سطح الحدث كونها متطابقة مع نوعية الشعارات التي أطلقها المتظاهرون، لكننا يمكن أن نجدها في صور أخرى لا تظهر واضحة لكنها فعالة، فتلك الديمقراطية تحمل معها:

- وعيا للذات بعيدا عن أو وصف آخر للإنسان في منطقتنا، فهناك حسم لخيارات خاصة كسرت الصورة النمطية للمواطن العربي عموما، وأخرجته حتى من الانتماء الذي حشر فيه بعد عقود من سعيه للدخول في العالم المعاصر كمواطن ينتمي لدولة وليس لقبيلة أو مذهب أو حتى فئة... لكن هذا الأمر يحدث في ذروة الأزمة ومن الصعب تحليل السلوك الاجتماعي بعد أن يهدأ الحدث، إلا أننا في النموذج التونسي والمصري نلمس توازنا واضحا في رسم هذا الخط الذي تخلص من "الفضاء الإعلامي" الذي أعاد تقيمه وربما حمله توجهات من الماضي.

 قدرة على تحديد القضايا وهو أمر تاه عند النخب السياسية التي بدأت بحركات يسارية وانتهت ليبرالية، وإذا كان من حق النخب أن تتجول في مساحة من التوجهات، لكن سياحتها الفكرية أعادت تريب القضايا بشكل غريب فارتبطت الليبرالية على سبيل المثال مع التجاوب السياسي لعملية التسوية، وأصبح الإسلام لصيق الإرهاب، وانتهى مفهوم الوطنية في حالة من رسم المواطنة على سياق التوزع الديني والطائفي والأثني، لكن "الديمقراطيون الجدد" في الصورة المصرية والتونسية على الأقل لم يحملوا معهم هذا التصور، فديمقراطيتهم ذاتية وليست امتدادا لموجة عالمية تستهدف تصفية كل ما هو وراء ما كان يسمى "النظام العالمي الجديد".

إذا صح تسمية "موجة" على ما يجري فهي "موجة إحياء الشخصية" لتلك المجتمعات، وفي ليبيا فإن هذا الأمر يبدو فاقعا بعد أن تم اختزال الليبيين طوال السنوات الماضية بشعارات وألقاب كانت تبدو للآخرين "طريفة" أو مثيرة للضحك، لكنها بالتأكيد مؤذية للشعب الليبي، فالتضحية التي يقدمها الشعب اليوم لا تملك نموذجا سابقا في تاريخه القريب على الأقل، لكن الدفاع عن شخصيته تدفعه لكسر الخوف من تلك الدماء التي تروعنا ونحن نراقبها من خلال شاشات التلفزيون.

الفرصة المقدمة اليوم هي في التوجهات التي تستطيع رسم تلك "الشخصية" القادرة على خلق المستقبل، فحركة النهضة في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تسعى لرسم الهوية الحضارية وفق المفهوم المعاصر، واليوم نحن لا نملك قفزة زمنية بل أفق يمكن أن يتطور باتجاهات مختلفة.