الكاتب : مازن بلال
بدا المشهد السوري أمس وكأنه يتخذ مسارا مختلفا، فبموازاة مشاريع القوانين الخاصة برفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة وإقرار مشروع قانون التظاهر، فإن الداخلية السورية وجهت أصابع الاتهام بشكل مباشر لـ"تيارات سلفية"، وطلبت من المواطنين عدم التظاهر أو الاعتصام حتى تستطيع تثبيت الأمن والاستقرار، وكان اللافت هو الهدوء الأمني النسبي بعد ثلاثة أيام دامية، في وقت ظهر بيان لنقابة المحامين في درعا يقدم فيه تصورا يمكن اعتباره الأوضح بالنسبة لجملة الأحداث.
ورغم أن الإعلام سار باتجاه جمع آراء حول مسائل قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة، لكن انعكاس هذه القوانين داخل الشارع السوري بقي في مساحة الحدث بذاته وربما بانتظار يوم الجمعة حتى يتضح مسار الأمور، فنداء الداخلية للمواطنين سيخضع لاختبار حقيقي خلال الأيام القادمة، كما أن القدرة على ضبط الاحتجاجات سترسم وإلى حد كبير المسار السياسي القادم وقدرة الإصلاحات على الدخول في عمق حركة الشارع السوري.
ووفق تصور مبدأي فإن المعادلة في سورية لم تدخل "لعبة الأرقام"، وربما بشكل متعمد، فالحديث عن تعبير سياسي ضخم للمظاهرات مازال يثير إشارات الاستفهام، وبعد أكثر من شهر من الصعب الحديث عن مشهد يمكن مقاربته بأي "ثورة عربية" سواء في تونس أو مصر أو حتى اليمن، فهناك تداخلات لا بد من إيضاحها حتى نستطيع قراءة الحدث والإجراءات الحكومية تجاهه:
بالدرجة الأولى فإن الحديث عن "شرارة" لتلك التظاهرات يبدو صعبا، لأن التظاهرات الصغيرة التي تطورت وحملت رمز "مدينة درعا" لم تشكل شرارة، ففي الوقت الذي كانت الأمور تتفاقم في درعا كان الشارع السوري يراقب فقط، وربما لم يتوقع الوصول إلى تلك النقطة التي نقف عليها اليوم، وبمعنى آخر فإن كان هناك "قفزة" إن صح التعبير باتجاه المطالب السياسية يفسرها البعض بتجاوز حاجز الخوف ولكنها في الواقع مكونة من عوامل مختلفة منها مسألة التراكم الذي حدث في درعا تحديدا والتركيز الإعلامي الحاصل وإدخال عنصر المفاجأة من خلال صور أجهزة الجوال، وبالتأكيد هناك صفحات الفيس بوك التي كانت ترفع سقف التوقعات وكأنها متتالية هندسية. فالحدث السوري كان مركب وربما معقد أكثر من أي حدث سابق له ولذلك فهو لم يقدم افتراقا حقيقا داخل الشارع السوري، فانتشار التظاهرات ليس بالضرورة منسقا وهو في نفس الوقت لم يقدم "مقياسا" عدديا حقيقيا على توجهات المواطنين أو رغباتهم.
الأمر الثاني نوعية التركيز على "العنف" الذي حمل رسالة إعلامية واحدة في بداية الحدث مرتبطة بالسلطة السياسية تحديدا، والملاحظة الأساسية هنا هو ان "التظاهرات" والرد عليها كانت هي المظهر الوحيد وحتى بعد شهر تقريبا فإن التعبير السياسي لم يظهر ضمن خطاب خاص لا في المدونات ولا على صفحات الفيس بوك ولا حتى في الفضائيات التي استضافت المحللين وشهود العيان والمعارضين في الخارج ونشطاء الداخل. فالحدث الأساسي في كل الروايات هو "عملية المجابهة" بذاتها، وهو أمر قاد الشارع السوري إلى تشتيت كامل في مسألة مسار الحدث، فحتى عندما يتم اتخاذ مواقف مما يجري لكن التصور العام عند المواطن مشوش وربما أسير الخطاب الإعلامي، وربما كان الوصف الأول لما حدث هو ما قاله الرئيس بشار الأسد حول مسألة "الحرب الافتراضية"، لكن الإعلام الرسمي على الأقل لم يهتم كثيرا وسار تجاه العناوين الأسهل التي اعتاد عليها سابقا، وهي ليست بالضرورة خاطئة، لكنها تشكل جزءا من كل، فالحرب الافتراضية كانت الغطاء الأساسي الذي يحتاج إلى قراءة وإيجاد آليات له.
الأمرين السابقين يمكن أن يشكلا مفتاحا للنظر للإجراءات الحكومية اليوم، فالقياسات الخاطئة في مسألة اعتبار الثورات نموذجا يتسرب باتجاه العالم العربي دون أي عوامل إضافية، سيقودنا حتما إلى آليات تجعل المسار مضطربا، فمنذ الثورة التونسية وحتى اليوم ظهرت مستجدات كثير حيث فقدت بعض الحركات اللاحقة استقلالها الذاتي مثل الثورة الليبية، وأصبحت "الموجة العربية" حالة غير مفاجأة يمكن التعامل معها بحيث تشكل انقساما حادا كما يجري اليوم في اليمن، وأخيرا وضمن رؤية إقليمية ودولية فإن المصالح في تلك الثورات تشابكت بحيث لا نستطيع الركون إلى استقلالية النموذجين المصري والتونسي، وبالتالي فإن أي تحرك لاحق، رسمي أو شعبي، عليه أن يعرف أن لعبة التوازنات في المنطقة يمكن أن تصبح جزءا من هذه الثورات.
وربما في هذا السياق نستطيع إعادة قراءة الإجراءات الحكومية اليوم، وذلك من باب الواقعية السياسية على الأقل، فتلك الإصلاحات تحمل جانبا ربما هو الأكثر وضوحا، فهي تريد وضع خطوة في المعادلة السياسية، فهي إجراءات تتيح إمكانية خلق بيئة مختلفة، لكن هذه البيئة تبقى خطرة لأنها تتشكل في ظل ظرف محلي مازال يحمل التوتر، وأيضا في مرحلة انكفاء سياسي لفعل الأحزاب التقليدية الموجودة في الجبهة الوطنية التقدمية، فهي يمكن أن تحمل معها انعطافات وربما مفاجآت، لكنها ستبقى ضرورية لتأسيس مستقبل مختلف يصنعه المجتمع بالدرجة الأولى.