الكاتب : مازن بلال

المسؤولون الأتراك لم يتوقفوا عن التصريحات منذ بداية الحدث السوري، لكن مسألة التصعيد السياسي على الأقل ما بين انقرة ودمشق بقي من جانب واحد، فالدبلوماسية السورية حاولت عدم الخوض في المواقف التي بدأها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ، واستمرت بتصريحات وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، وبالتأكيد فإن الرئيس التركي عبد الله غل توج الأمر بالحديث قبل يومين عن استعداد بلاده "لأسوء السيناريوهات".

وما يبدو غير مبرر في مسيرة التصريحات التركية سيظهر وكأنه مشهد إقليمي جديد، فالدور التركي بات يصطدم بمسرح عربي لا يحمل معه نفس الصورة السابقة، فاختلال التوازن الذي سبق الحرب على العراق ودفع تركية لاتخاذ موقف جديد تجاه إستراتيجية الولايات المتحدة، يدفعها اليوم إلى إعادة بناء موقعها ليس نتيجة "الثورات العربية"، بل لأن العلاقات الإقليمية دخلت مرحلة اضطراب، فأنقرة وبعد الأحداث الليبية ربما التقطت "إشارة" التحول على المستوى العربي عموما، وهو أمر يدفعها وبشكل سريع إلى البحث داخل "العمق الاستراتيجي" لكتاب وزير خارجيتها عن آليات جديدة.

عمليا فإن ما حصل منذ عام تقريبا، وتحديدا بعد حادثة سفينة مرمرة شكل "ارتطاما" لمسألة الدور التركي بواقع إقليمي تضيق هوامشه كلما اتسعت تفاصيله، فوزير الخارجية التركي ربما أجاد في توصيف الموقع التركي، وقدم أطروحة رائعة في فهم موقع بلاده استنادا لعوامل ربما أهملها القوميون الأتراك سابقا، ولكن في نفس الوقت فإن العوامل الإقليمية لا تشكل "كابحا" فقط بل قامت وبشكل دائم على فرز المنطقة باتجاه حدي، فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية تداعت السياسات الإقليمية التي تحاول خلق توافق داخل منطقة الاضطراب، والآلية التركية التي قامت على "فرض التوازن" نجحت في تسويق صورة تركية، لكنها فشلت في فرض الحلول التي توصلت إليها، ابتداء من التوسط ما بين "إسرائيل" وسورية وانتهاء بالمبادرة لحل أزمة إيران النووية، وبهذه الصورة بدت تركية دولة تعمل جاهدة داخل دور يمتد على طول الاستقطاب الإقليمي، فلم تحقق اختراقا حقيقيا في أي من الأزمات التي تعاملت معها، فهل يمكن أن نطلق على ما حدث فشلا سياسيا؟!

بالتأكيد فإن تركية تدرك، ومن خلال كتاب أوغلو نفسه، أن موقعها "الجيوستراتيجي" يفرض عليها الاعتراف بالواقع القائم، فهي لا تستطيع اتخاذ موقف شبيه بإيران، وفي نفس الوقت لا تستطيع تحقيق المزايا التي تمتلكها "إسرائيل" من تحالفها مع الغرب، وبناء دورها الجديد مع الأخذ بعين الاعتبار "التراث التاريخي الذي" قدم لها "تهدئة داخلية" وساعد على تنفيذ سياسة أردوغان التنموية، لكن دولة مثل تركية وبطموح استراتيجي واضح ربما تحتاج إلى أكثر من كونها "خط تماس" داخل أزمات الشرق الأوسط، الأمر الذي دفعها إلى التعامل مع الموضوع السوري بهذه الحدة، وهو ما يذكرنا بنفس الحدة التي تعامل بها أردوغان مع "إسرائيل" ولو من زاوية مختلفة، لكن عمق التصرف التركي كان واحدا لأنه يستند إلى أمرين:

الأول ضرورة الإيحاء بمسألة الالتزام السياسي إقليميا، فأنقرة تريد التأكيد على ان كل القضايا المتعلقة بالمنطقة هي جزء من توجهاتها، وبأنها تمثل "الثقل الإقليمي" الذي يمكن أن يؤثر على مواقف الآخرين.

الثاني تعبئة الفراغ العربي بموقف مواز للموقف الإيراني، سواء تعلق الأمر بالموضوع الفلسطيني او بأي قضية أخرى، ومن هذه الزاوية فإن التصريحات تجاه سورية لم تكن بأقل حدة عن تلك التي وجهت لـ"إسرائيل" لأن بعدها الأساسي هي ما فهمته انقرة بأنه "تجاهل" لقدرتها على التأثير أو لعملية فرض التوازن التي تريدها، فـ"النصائح" التي وجهت لسورية لم تكن ضمن مشاورات سياسية، بل جاءت ضمن مناخ تم تأسيسه سواء عبر استضافة مؤتمرات المعارضة، أو من خلال الإشارات لمسألة الرأي العام التركي، وهو أمر يشبه إلى حد بعيد ما حصل تجاه "إسرائيل" بعد الحرب على غزة.

المهم في الموقف التركي هو استيعاب أبعاده وليس اتخاذ مواقف منه، لأنه في النهاية موقف يمكن معرفته وقراءته، فتركية دولة جوار الأمر الذي يفرض معرفة دقيقة بحساسية السياسة التي تحكم العلاقة معها سواء اتخذت مواقفها منحا تصعيديا أو سارت بشكل طبيعي...