لا يعني فهم الوطن حالة كلاسيكية متعلقة بالحدود، رغم أنها موضوع إشكالي سوري يظهر في مفاهيم بعض الأحزاب في تعريفاتها السياسية التي تستخدم "القطر" أحيانا و "الكيان" أحيانا أخرى، لكن في رؤية متزامنة مع الحدث السوري فإن موضوع الوطن يكتسب حركية سياسية متنقلة على مساحة الأزمة التي تبدو في أحد صورها ارتدادا لعلاقة هذه الحركية مع الحدود الجغرافية السورية، فحتى جبهة الجولان اشتعلت وشكلت نوعا من الترابط في استكمال مشهد ظهر مترابطا على الرغم من حالات الانقسام الداخلي التي يعكسها الحدث بذاته.

بالتأكيد فإن مواضيع الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية هي شعار المرحلة، لكن إسقاطها على الأرض لم يكن بعيدا عن تصورات "الوطن" الذي يبدو أنه يشعل الحدود في إشارة لفاعلية سياسية ضاغطة أو محشورة داخل جغرافيتها وتحتاج لأدوار إضافية قادرة على دفعها إقليميا، وهذا الأمر يحمل مؤشرين:

الأول أن الأزمة الحالية مهما بدت مطلبية بشعاراتها لكنها في المقابل تحمل معها "المزاج السياسي" الذي ينظر في النهاية إلى طبيعة "المنظومة" التي تشكلها سورية ضمن النظام الإقليمي عموما، فالجميع ومهما كان موقعه أو موقفه كان يحذر من أي عملية تفكيك داخل سورية أو فوضى ربما يشعلها الحدث، وإذا كان المقصود هو تفتيت المكونات الخاصة بسورية، فإن عمق هذه المكونات هو الذي يرسم رؤية الوطن على أساس "السياسة الممتدة" باتجاهات أربع، فالمسألة ليست مجرد امتداد تاريخي أو ثقافي يتجاوز الحدود بل أيضا قاعدة تضمن إلى حد كبير التوازن في مواجهة "الكتل الإقليمية" التي لعبت في تاريخ سورية الحديث، وعلى الأخص بعد الاستقلال، تأثيرا مباشرا على السياسة الداخلية.

هل كان الرئيس بشار الأسد في خطابه أمس عندما تحدث عن ان سورية لن تكون "كرة" في ملعب السياسة الدولية يتحدث عن هذا المزاج السياسي؟ ربما لكن المهم هنا هو ان هذا الموضوع كان حاضرا في "بلورة النموذج"، فمثل هذا الطموح ظهر قي قول الرئيس الأسد مباشرة عندما تحدث مطولا عن طريقة صياغة القوانين أو حتى وضع دستور للبلاد، فهو أمر يحتاج لاتفاق السوريين، وذلك في إشارة لأهمية ما يمكن أن يظهر لأنه يتعامل مع "وطن" بمزاج سياسي خاص.

الثاني سرعة التماهي ما بين الشأن الداخلي والإقليمي، وهذا الأمر لا يفسره فقط موضوع المؤامرة، بل أيضا محاولة الحد أيضا من "النشاط السوري" عموما وقدرته على تعميم نموذجه السياسي أو الفكري سواء اختلفنا مع هذا النموذج أو اتفقنا، وبغض النظر عن الأمثلة الكثيرة التي يمكن أن تورد هنا ابتداء من ظهور الأحزاب العقائدية في سورية ومرورا بتعمبم "الفكرة القومية"، لكننا في النهاية نشهد بشكل دائم صراعا على النماذج وصلت بذروتها في عام 2006 في مواجهة لرسم نموذج جديد كليا عبر حرب مباشرة شنتها "إسرائيل"، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تتحدث عن الديمقراطية في العراق وفق التقسيمات المذهبية أو الأثنية.

عمليا فإن الحراك السياسي المنتظر مهما كان موقف أطرافه من المراحل التاريخية السابقة، لكنه في المقابل سيجد نفسه أمام هذا الخيار الصعب: "الوطن.. وطبيعة التفكير السياسي"، فعندما ننظر إلى أحزاب جديدة أو قائمة فربما علينا مراجعة "المزاج السوري" قبل كل شيء.