كل ما سبق لم يعد مهما لأننا نعيش زمن النتائج وعلينا استيعابها أو إعادة تخليقها، وعلينا أيضا رفض الروايات حتى لو قعت لأنها أصبحت على هامش الحدث، وأخيرا نستطيع تقليب صورنا من جديد لنكتشف أن شيخوخة مبكرة تهددنا لو بقينا على نفس سياق الأسئلة القديمة
كنت اكره أي حديث يبدأ بالاستفسار أو سؤال لمجرد فتح مجال للكلام، وكنت أيضا استغرب كم إشارات الاستفهام داخل "الثرثرة" للنسوة وللرجال والطلاب والأصدقاء، لأن الفضول كان يشعرني بأن هناك كسر لأي مساحة خاصة نريد الاحتفاظ بها، ولكن إلى أي حد نستطيع فيه التوقف عن السؤال ونحن عاجزون عن تقديم تفسيرات.
لن اعتذر عن كرهي للأسئلة التي لا تحمل أي منهجية في أحاديث الصباح، ولا حتى عن شوقي لسؤال ربما يغير طريقة التفكير في مسألة ما، ولكن صلب الموضوع هو اننا اليوم لا نملك إلى تلك الأسئلة أمام حدث يعانق أي جسد يختلي به، ثم يخيرني بين الموت والاغتصاب، أو حتى بين انعدام الرؤية والغباء، فعندما تتقلص مساحات الحقيقة التي "نخلقها" ببدء العد التنازلي لحقائق الآخرين كي تستولي على تفكيرنا.
الأسئلة كثيرة أمامي لكنها لا تملك منهجية لـ"اختراع" الحقيقة، أما على المقلب الآخر فهناك الروايات المتنقلة التي تصنع "فضاء" كي تتشكل فيه حقائق مختلفة ومعرفة ترخي بظلال سوداء على أي محالة إيجاد رؤية، ففي سورية لا يوجد سؤال هلى سياق هل بالإمكان...؟ لأنه يحمل نوع من إشراك الآخرين بالاستشراف والتفكير، أما صيغة على شكل "كان بالإمكان..؟ فهو الأكثر شيوعا لأنه يبرز التفوق المعرفي.
كل ما سبق لم يعد مهما لأننا نعيش زمن النتائج وعلينا استيعابها أو إعادة تخليقها، وعلينا أيضا رفض الروايات حتى لو قعت لأنها أصبحت على هامش الحدث، وأخيرا نستطيع تقليب صورنا من جديد لنكتشف أن شيخوخة مبكرة تهددنا لو بقينا على نفس سياق الأسئلة القديمة، فبعد أقل من عام بقليل هناك تكرار لا يدفع الا للأسى، بينما ترتسم جدران حول العقول.
لا أحد يستطيع ادعاء النبوة لأنه حذر من واقع سيحصل، فهذه النبوءة مكررة وقاصرة، وهي تقف عند حد واحد يريد القول بأن كل ما سيجري عبث وأن كل ما جرى يمكن الهروب منه أو الهروب من مسؤوليته، فنحن اليوم امام صورة قاتمة ولكن ليس سياسيا ولا أمنيا، لأنها تمس وجدان المجتمع الذي جعلته الصدمة أكثر تمسكا بقناعته السابقة، فعاد ليكرر استشرافه الذي سقط.
من كان يتوقع الحدث السوري عليه اليوم أن يقدم نبوءته القادمة، فالاستعراض لم يعد مهما، واللعب على الممكن لا يحتاج لسياسيين فقط بل أيضا لتفكير يحكم عقولهم حتى يصلوا إلى نقطة النفاذ من الأزمة، فأكثر ما ازعجني في المبادرة العربية هي مسألة قياسها على جهد دبلوماسي سابق في اليمن، وكأن كل الطيف السياسي السوري كان عاجزا عن ابتكار الوسيلة فجاءت إلينا من قيظ الصحراء.
ومن كان يعرف سلفا المأزق الحالي فعلية أن يقدم لنا مساحته القادمة وليس فقط شعارات تتفاوت ما بين اليمن واليسار والوسط، وكأن الأزمة السورية مجرد مسميات ومصطلحا وإحصاء لأعداد الضحايا.
من كان يعرف فهو اليوم جاهل تماما، وكل معرفته لن تفيده لأن الزمن تجاوزه، فطوبى لمن يعمل...