ممارسة السياسة على طريقة مجالس السلاطين في عهد المماليك تؤكد أن "الفعل الديمقراطي" هو في النهاية سراب، أو حتى وهم لا يملك أي ملامح، ففي تلك المجالس الرأي والرأي الآخر هو هجوم كاسح أو حتى تمترس وراء القوة المعنوية التي يفرضها "نوع الملابس" أو القرب من السلطان أو حتى القدرة على "بث الفتن".

و "ديمقراطية المماليك" هي ثقافة لاتقتصر على مجلس، بل تنتقل أحيانا في الشوارع، وتظهر لنا في أنواع الفوضى التي يمكن أن تظهر وكأنها "فعل ديمقراطي"، وعند الوصول إلى صناديق الاقتراع فإن نتائج هذه الفوضى هي التي تحكم، ففي النموذج المصري يبدو الأمر أوضح بكثير من أي مكان آخر، وفي حشود ساحة التحرير ومحاولة "الأخوان المسلمين" السيطرة على الميدان نموذج آخر، ولكن رغم قدرة الآخرين على احتلال الميدان وإشعال الثورة، إلا أن صناديق الاقتراع لم تكن لهم، وربما لن يكون مستوى انعكاس للطاقة الثقافية العامة على تنظيم أمورها وخلق مؤسساتها.

وممارسة السياسة أيضا وفق سياق زمن المماليك لا تجعل من الحراك الاجتماعي سوى هامش يتسلح به البعض في وجه الآخرين، وعندما تصبح الحرية نوعا من الحرب ضد الآخر أو حتى دفعه إلى منطقة رمادية، في النهاية فإن تلك الحرية المنفلته من أي واجبات أو فهم لحقيقة العلاقات الاجتماعية وحتى الاقتصادية تضعنا من جديد أمام بنية غريبة.

ليس علينا الانتظار كي نمارس الديمقراطية، وأي مظاهر ثقافية من عهد المماليك لا تشكل مبررا لعدم التعامل مع الإجراء الديمقراطي، ولكننا نحتاج بالفعل لمعايير ومقاييس، ونحتاج لتأسيس ثقافي ومعرفي كي لا نجد أنفسنا بعد سنوات ضحية لاستبداد أو فوضى من نوع مختلف، فالتجربة السورية اليوم تضعنا أمام حالة استثنائية من أجل ممارسة الديمقراطية، لا تبدأ بالاحتجاج أو أعمال الشغب فقط، ولا تنتهي عند مجلس الأمن والحديث نيابة عن الإرادة السورية، بل هي أكثر تعقيدا لأن الديمقراطية في النهاية مؤسسات قادرة على التعامل مع مصالح متباينة أحيانا ومع مفاهيم مختلفة.

الديمقراطية أيضا قدرة على بناء علاقات داخلية منسجمة مع هذا المصطلح، ورغم الحديث عن أن سورية لا تملك الكثير من التجربة، لكن الواضح أن أيا من الأطراف لم يحدد نقطة انطلاق للسير نحو الديمقراطية، وهناك شروط انقلابية من الجميع تدفعنا من جديد لإضافة أمر آخر على الديمقراطية: فهي هوية أيضا، وهي سياق وليست مجرد ممارسات، وهي رهان لا بد منه.

نقطة البدء ليست زمنا بل "إرادة" على التعامل مع هذا المفهوم بكليته، ودون الحاجة لبرنامج الاتجاه المعاكس والطريقة المسرحية التي يرفع بها فيصل قاسم يده، فيظن المشاهد أن هناك هجوما يستهدفه، ونقطة الانطلاق في النهاية هي كسر المألوف في كل ممارساتنا السابقة التي كنا نعتقد أنها ديمقراطية، لكنها في الحقيقة تنتمي لزمن المماليك وربما لما قبل ذلك.