في صدر الصفحة الأولى من “السفير” أمس صورتان عن لبنان.
الصورة الأولى عن التفجير الذي كاد يودي بحياة وزير الدفاع الياس المر. حرائق، دمار، قتلى، جرحى. جريمة أخرى تؤكد أن لبنان دخل، منذ سنة، في مرحلة اضطراب شديد. إنه الاضطراب “الطبيعي” الذي يرافق نقل بلد، بقضّه وقضيضه، من ضفة إلى أخرى قاطعاً ارتباطاته السابقة وساعياً إلى تحديد وجهة أخرى لمستقبله. هذه العملية التاريخية لا يمكن لها إلا أن تكون عملية جراحية في العمق. ثمة توازنات داخلية وإقليمية ودولية يجب أن تسقط لتنهض بدلاً عنها توازنات جديدة. وهناك من يقول إن ما شهدناه، حتى الآن، ليس سوى قمة جبل الجليد. الآتي أعظم.

الصورة الثانية عن اللقاء في إحدى غرف المستشفى حيث كان الوزير المر يخضع لعمليات جراحية. إنه لقاء اللياقات بين أشخاص تبادلوا أقسى الاتهامات، وخوّنوا بعضهم بعضاً، وحدد البعض البعض الآخر بأنه متآمر ومسؤول عن الاغتيال الجسدي لقيادات أو الاغتيال السياسي لمشروع. تتفرّس في وجوه الصورة الثانية فلا تلحظ انعكاس الصورة الأولى. لحظة اجتماع عابرة ما إن تنتهي حتى يعاود أبطالها، بعض أبطالها، التصريح والتلميح إلى أن بعض من كان معهم في الصورة الثانية مسؤول عن فعلة الصورة الأولى.
إلا أن اللياقات لا تعمّر طويلاً. ففي مساء اليوم نفسه قدّم فؤاد السنيورة، الحاضر في الصورة الثانية، تشكيلة حكومية إلى إميل لحود، الموجود، هو الآخر، في الصورة الثانية. والتشكيلة مصاغة بحيث يعتقد لحود أنها محاولة لإزالته من المشهد العام، وبحيث تستدرج رفضاً من جانب المشاركين في المفاوضات، الموعودين بحصة، والحائزين على أقل منها.

والنتيجة المتوقعة هي أن التشكيل يتعقّد دافعاً المتفائلين إلى الحديث عن أزمة تأليف، والأقل تفاؤلاً إلى توقع أزمة سياسية أو أزمة حكم، والواقعيين إلى الجزم: إنها أزمة وطنية!
كان من المنطقي، في بلد عادي، أن تتألف الحكومة من الأكثرية النيابية. أي الأكثرية التي تشاور معها السنيورة قبل رفع اقتراحه إلى لحود. ولا تعريف لهذه الأكثرية إلا عبر عدد النواب في البرلمان. فعدد الأصوات الشعبية لا يلزم أحداً بمراعاة الأحجام المتفاوتة إلا إذا رغب. هذه أبجدية الديموقراطية. وهذا هو ما يؤدي إلى الوضوح في تسلم المسؤوليات وتحمّل التبعات. ويزداد الأمر إلحاحاً، في لبنان، بفعل التوتر الأمني وكمون الأزمة الاقتصادية وإشكالات العلاقة مع سوريا. الانتظار ترف لا يُحتمل. وبما أن الحملة الانتخابية خيضت بشراسة من أجل تأمين أغلبية كاسحة، وبما أنها أوصلت إلى أغلبية مريحة، فالتتمة المنطقية هي التوجه نحو حكومة تضم تحالف الحريري وجنبلاط و“قرنة شهوان” «“القوات اللبنانية”ضمناً».

غير أن مشكلة حكومة من هذا النوع هي أنها ستضع خارجها الأكثرية الشيعية الساحقة والأكثرية المسيحية الواضحة. وهذه المشكلة هي تحصيل حاصل النظام الطائفي اللبناني. ولكن في الإمكان الزعم أنها مشكلة غير عصية على الحل لو أن الإجماع متحقق حول العناوين الوطنية الكبرى التي كانت، ويبدو أنها لا تزال، موضع خلاف بين اللبنانيين، موضع خلاف “كياني”.

توضيحاً لذلك يمكن القول إنه في بلد ديموقراطي عادي يكفي النصف زائد واحد من أجل استلام السلطة كاملة وتنفيذ البرنامج. إلا أنه في هذه البلدان الديموقراطية العادية فإن ذلك يحصل على قاعدة توفر إجماعات حول القضايا الوطنية الكبرى. ويمكن تقديم عدد من الأمثلة على ذلك من الدول الديموقراطية العريقة حيث التنافس السياسي وتداول السلطة لا يعني المسّ بمسلمات وثوابت موجودة خارج النقاش. لا يستطيع الحزب الشيوعي الفرنسي، مثلاً، أن يشارك ضمن ائتلاف يساري حاكم إلا إذا وضع جانباً اعتراضاته على درجة “أطلسية” فرنسا حتى لو كان ذلك في عز احتدام الحرب الباردة. ويمكن لطوني بلير أن يحكم بريطانيا بأقل من أربعين في المئة من الأصوات الشعبية لأن الحزبين المخاصمين للعمال لا يختلفان معه جذرياً حول العلاقة الأطلسية المميزة مع أميركا، وحول النظر إلى علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، وحول أولوية اقتصاد السوق...

ليس هذا الأمر وارداً في لبنان ولو أن البلد مرّ في فترات تراءى للبعض خلالها أن “الثوابت” هي “ثوابت” لدى الجميع. ولقد انعكس هذا الغياب للإجماع أو للتوافق الوطني في النقاش الذي شهدناه بخصوص “طائفة” وزير الخارجية.

لو كان الاتفاق قائماً فعلاً حول هوية لبنان، وموقعه، ودوره، ومقاومته، وسلاحها لكان ممكناً لا اختيار أي وزير خارجية وإنما، أيضاً، تشكيل حكومة لا تضم “حزب الله” أصلاً. فالحزب لم يكن في الحكومات السابقة ولكنه كان مطمئناً إلى أن هناك من يدير الوضع العام وكأن الإجماع متحقق. ولما انتفت هذه الإدارة انكشف الانقسام الجدي “ربما كان الانقسام في أصل الدفع نحو انتفاء هذه الإدارة” بحيث أن أي وزير خارجية لم يعد في إمكانه التحدث باسم وحدة وطنية مفترضة وحاسمة.

لو كان الإجماع قائماً حول العناوين الوطنية الكبرى لكان يمكن للأكثرية النيابية أن تحكم بصفتها مؤتمنة على هذا الإجماع ومتميزة عن الآخرين بسياسات حكومية لا تطال جوهر القضايا الكيانية. كان يمكن ل“حزب الله”، في هذا المثال، أن يكون في المعارضة مطمئناً إلى وجود قاعدة صلبة لتلاقي اللبنانيين حول السؤالين اللذين يطرحهما حسن نصر الله: هل إسرائيل عدوة أم جارة؟ هل لبنان في دائرة المطامع والتهديدات الإسرائيلية أم لا؟

هذا مجرد مثال من أمثلة عديدة كثيرة وهو يدل على حجم المأزق الذي نعيشه والذي يعبّر عن نفسه خلافاً حول التشكيلة الحكومية. وربما يكون المأزق أشد فداحة إذا تذكّرنا أن الأكثرية النيابية نفسها قد لا تكون على الخط نفسه في ما يخص القضايا الكيانية، وأنها متشكلة من ائتلافات وحساسيات قد لا تصمد أمام أي اختبار جدي.

إن على اللبنانيين مواجهة هذه الحقيقة القاسية، حقيقة انقساماتهم الجدية. فالموضوع ليس موضوع توزيع حقائب. والعلاج لا يكون بلقاء في غرفة في مستشفى. في مستشفى غير مجهز لمداواة هذا النوع من الأمراض

مصادر
السفير (لبنان)