يغالب المرء نفسه وهو يقرأ تصريحات عدد من رجال الأعمال اللبنانيين. يغالب نفسه حتى لا يقول فيهم، في أثناء محنتهم والمحنة العامة، كل الهجاء الذي يكنه لهم.

إذا راجعنا المحطات الرئيسية السابقة، في الأشهر الأخيرة على الأقل، والتي لعبت الأدوار الحاسمة في تقرير المصير الوطني، فإننا لا نجد أثراً لهؤلاء. ويأتي ذلك في امتداد تاريخ لهم يقوم على التعفف من ممارسة السياسة ومن التدخل في توجيه الأمور نحو هذا المنحى أو ذاك.
لقد استفاقوا، فجأة، مع اندلاع أزمة الحدود بعد المبادرة السورية إلى توجيه رسالة سياسية بقالب أمني، أو بذريعة أمنية، إلى النظام الناشئ في لبنان. استفاقوا ليقولوا كلاماً يتميّز بقدر عال من السطحية. صرّح أحدهم: <<إن ما يحصل وصمة عار على جبين المسؤولين اللبنانيين كافة دون استثناء. لم يتحرك لهم جفن حتى الآن. يجب ألا يظنوا أن مثل هذه المشكلات تُحل بواسطة الهاتف>>. وهدد الصناعي المشار إليه ب<<موقف حازم للفاعليات الاقتصادية التي تمسّها في الصميم مأساة الناس الاقتصادية من جراء الطريقة التي يعالج بها بعض أركان الطبقة السياسية شؤون الوطن>>. صح النوم!
لقد كان مطلوباً إغلاق الحدود، وزيادة أرتال الشاحنات، ووقف التصدير، وتضخم الخسائر، وتهديد المصانع بالتوقف، وارتباك التجارة، وتلف الزراعة، لقد كان مطلوباً ذلك كله، وأكثر، من أجل أن تشعر بورجوازيتنا اللبنانية التافهة بأن الطبقة السياسية ليست على ما يرام.

لقد كانت هذه النتيجة مكتوبة، كاحتمال على الأقل، في سلسلة التطورات الآخذة بعناق لبنان منذ فترة. ولقد كان واضحاً أن السياسيين اللبنانيين، بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري خاصة، لا يدخلون الاقتصاد في حسابهم عند اتخاذ القرارات. ومع ذلك فإن الهيئات الاقتصادية، أو التي تسمي نفسها كذلك، صمتت صمت القبور ثم ارتفع عويلها وهي تشهد لامبالاة <<الطبقة السياسية>> حيال ما هو، بحق، كارثة وطنية.

لقد افتقدنا هذه الهيئات عند البحث في قانون الانتخاب مثلاً. ثم افتقدناها عند الانتخابات التي أوصلت الغرائز الطائفية إلى
الذروة. ويأتي هذا الافتقاد في سياق تقسيم للعمل ارتضته هذه البورجوازية لنفسها ويقضي بفصل الدائرة الاقتصادية عن الدائرة السياسية والتسليم بأن الثانية هي اختصاص حصري لأبناء العائلات أو لزعماء الميليشيات.

وحتى الصناعي المذكور فإن إطلالاته التلفزيونية، في خلال الأزمة المستمرة، تميّزت بمعاملة السياسة مثل الجرب الذي يفترض تجنّبه والتهرّب من كل سؤال حول الموضوع والاستغراق في استعراض حلول تقنية لمشكلة سياسية وطنية من الدرجة الأولى هي مشكلة العلاقات اللبنانية السورية.

إن ما نحن عليه الآن في لبنان، أي ان الأزمة العامة التي نعيشها، هي، بمعنى ما، نتيجة من نتائج امتناع هذه الفئة عن السياسة وعن العمل العام. ليس هذا هو السبب الوحيد ولكنه، بالتأكيد، سبب أساسي.

والمقصود بالعمل العام، هنا، ما يتجاوز السياسة المباشرة. إن له علاقة بكل ما يعني المجتمع. فنحن لا نعرف، مثلاً، أن رأسماليتنا مهتمة جدياً بالتعليم وأنها صاحبة كلمة فيه. ولا هي مهتمة بالبيئة. ولا بالثقافة. ولا بالإعلام. ولا هي تربط مصالحها بالتقدم الإجمالي للبلد. وبعيد كل البُعد عنها، مثلاً، أن تطالب للمواطن بحق الاقتراع النيابي أو البلدي حيث يسكن. ولم نسمع عنها اهتماماً ملحوظاً بتحديث القوانين. إنها تتصرف تصرف نقابة صغرى معنية بالشؤون المباشرة التي تهمها. وهي تراقب وتقترح وتحتج وتؤيّد عندما يكون الأمر المطروح لصيقاً بمصالحها المباشرة والضيقة. وتعتقد، واهمة، أن في وسعها أن تزدهر في اقتصاد ليبرالي ينمو وسط مجتمع مشدود إلى روابط تقليدية ومتخلفة. ولا تمانع في أن تبدو كمن ينهب البلد نهباً أو كمن انفصل عنه تماماً بحيث إذا أتت المنازعات والحروب الأهلية عليه أمكن لها النفاذ بجلدها وتهريب ثرواتها والانتقال إلى حيث يمكنها أن توالي الربح السريع.
لقد شهد لبنان رجال أعمال تقدموا لخوض المعترك السياسي. إلا أنهم فعلوا ذلك بصفتهم أفراداً كما أنهم، في المجال السياسي، خضعوا لقوانين اللعبة الطائفية والمذهبية ولم يبد أي أثر عليهم لصدورهم عن موقع اقتصادي واجتماعي محدد. ويكفي أن نلاحظ كيف يختار أحد هؤلاء مديراً لشركته وكيف يختار نائباً أو حليفاً حتى ندرك أنه يفعل الشيء الأول وفق معايير الكفاءة والفعالية ويفعل الشيء الثاني وفق معايير الزبائنية والولاء.
إن الفرق شاسع بين أن يقتحم رجال أعمال عالم السياسة وبين أن تقتحم طبقة رجال الأعمال السياسة فارضة قيمها ومقاييسها وساعية إلى المساهمة في صناعة المستقبل. وكذلك الفرق شاسع بين الاستعانة ببيروقراطيين وزعماء أحزاب وقوى سياسية لتنفيذ سياسة معينة وبين إيلاء السلطة إلى شخصيات وزعماء طوائف وعشائر وتقاسمها معهم على قاعدة التسليم لهم بالنفوذ الكامل على المجتمع والإبقاء على واحة <<المبادرة الحرة>>.

إن البورجوازية اللبنانية هي لعنة لبنان الأولى “مثيلاتها في البلدان العربية الأخرى أسوأ منها”. وإذا كان هناك من استثناء فإنه، بالضبط، إثبات للقاعدة القائلة بأن هناك من تخلى، بالكامل، عن مسؤولياته الوطنية.

إن هذا الغياب المدوي هو الذي يساعد اللعبة السياسية في أن تدور، حصراً، في النطاق الطائفي وأن تنجرف إلى ما تنجرف إليه من توتر يهدد الوطن، كل مرة، بالتصدّع. وهذا الغياب هو الذي يسمح للسياسيين، المعنيين بتعبئة قواعدهم الطائفية، بالاندفاع نحو مغامرات يغيب عنها الهمّ الاقتصادي فتقود نحو أزمات من النوع الذي نعيشه اليوم.

إن إصلاح الإدارة العامة جزء من الاقتصاد. وقانون الانتخاب جزء من الاقتصاد. ومستوى التعليم الرسمي والخاص جزء من الاقتصاد. وعلاقات الطوائف في البلد الموحّد أو السوق الموحّدة جزء من الاقتصاد. والإنتاج الثقافي جزء من الاقتصاد. والحرية الحقيقية للإعلام جزء من الاقتصاد. والعلاقة اللبنانية السورية جزء من الاقتصاد. ومصير المدنيين الفلسطينيين جزء من الاقتصاد. واستقلال القضاء جزء من الاقتصاد. ومرونة التشريع جزء من الاقتصاد. وسلامة الطرقات جزء من الاقتصاد. والمناخ جزء من الاقتصاد. والمهرجانات الفنية جزء من الاقتصاد، ويمكن الاستطراد...
إن <<الاقتصاديين>> اللبنانيين يوكلون معظم هذه القضايا المشار إليها إلى سياسيين يستمدون نفوذهم من أواليات لا علاقة لها البتة بهذه العناوين. وعندما يقودنا هؤلاء إلى مآزق يعلو الصراخ. حتى عندما يعلو الصراخ فإنه يكون مصحوباً بهذه المقولة الفارغة: حاشى أن نتعاطى السياسة!

مصادر
السفير (لبنان)