ما يحصل في بعض مستوطنات غزة كان متوقعاً. لم يكن <<الإخلاء>> ممكناً من دون وجود الكاميرا. لقد كان مطلوباً نقل الصور إلى العالم كله، صور <<الاقتلاع>> و<<التمزق>> و<<الترحيل>>. صور الشعب الذي يُستأصل من جذوره ويعاني الآلام على أمل أن تحصل قيادته على سلام يرفضه خصومها وأعداؤها.

كان مطلوباً <<شخصنة>> المأساة إلى أبعد حد: المرأة التي تجر طفلتها، الفتاة الباكية، العجوز المقبل على تشرد، الجندي المحتار، الناشط القادم لنجدة أخوته، المؤمن الذي لا يفهم سر مخالفة التعاليم والشرائع... وليس أسهل، والحالة هذه، من إيجاد صلات الوصل مع صور أخرى، من أوروبا هذه المرة، عن <<المحرقة>> والاستدلال، بذلك، على أن التاريخ سلسلة اضطهاد تصل، في محطتها الحالية، إلى حيث يكون اليهودي هو الجلاد وهو الضحية، وإلى حيث يضطر الحاكم إلى الاقتطاع من اللحم الحي لتقديمه قرباناً على مذبح توقه إلى السلام.

كلما حضرت الصورة كلما غابت الحقيقة. يتحوّل المشاهد إلى جاهل من كثرة ما يرى.

لن يتساءل أحد، طبعاً، عما إذا كان بين المستوطنين الجاري إبعادهم أحد من ال<<ميزو>>. لن يتساءل أحد، أصلاً، عن ال<<ميزو>>.

نشرت مجلة <<إكسبرس>> الفرنسية (يمينية، لكن يفترض أنها رصينة) في عدد أخير تحقيقاً عن ال<<ميزو>>: إنها فرع من قبيلة تعيش في جبال شمالي شرقي الهند وتضم الآلاف (ستة آلاف؟) ويعتقد أفرادها أنهم من يهود الشتات. يشكو هؤلاء المقيمون في عمق المناطق القليلة على الحدود بين الهند وبورما من بُعدهم الشاسع عن إسرائيل. لا يتكلمون العبرية طبعاً ولا يمارسون من طقوس اليهودية سوى ما تعلموه من كتب تُرجمت إلى لغتهم التي أصبحت مكتوبة منذ عقود فقط. إلا أن ذلك لا يمنع أحد المعبّرين عنهم من الجزم <<أعلم أني يهودي. صحيح أن جسمي هنا، لكن روحي هناك في إسرائيل. سأعود يوماً إلى الأرض الموعودة>>.

فاجأت الحقيقة هؤلاء القوم في السبعينيات فباتوا يدّعون أنهم هم <<بني ميناشيه>> وأنهم واحدة من القبائل اليهودية العشر التي تاهت وذلك عندما تعرضت مملكتهم في فلسطين للغزو في العام 721 قبل الميلاد. واستخلصوا من هذه الحقيقة أن العودة واجبة.
لا يعرفون كيف حصل لهم ما حصل لكنهم متأكدون من أنهم اجتازوا إيران وأفغانستان في زمن سحيق حتى وصلوا إلى الهند. <<إنها ملحمة عمرها 27 قرناً>> تعلق المجلة الفرنسية برصانة لتضيف ما معناه أنهم، بعد فقدان الذاكرة ونسيان اللغة والتقاليد والتاريخ، يعيشون انبعاثاً.

صحيح أنهم يربون الخنازير ويأكلونها، لكنهم مصرون على أن وجودهم حيث هم <<خطأ تاريخي>>. ولقد تنبّهوا إلى ذلك بعدما اكتشفتهم مؤسسة <<شافي إسرائيل>> المتخصصة في مهمة نادرة تقتضي البحث عن القبائل اليهودية المفقودة. شرعت تهتم بهم. وقد نجحت في ترحيل حوالى 800 منهم إلى إسرائيل بعد أن حسمت أنهم <<أثبتوا يهوديتهم وعلينا مساعدتهم>>. أما كيف أثبتوها فلأن معتقداتهم وبعض طقوسهم تشبه اليهودية، ولأنهم وهذا هو الدليل القاطع يغنون أغنية مثيرة تشير إلى أجداد لهم اجتازوا بحراً، هو البحر الأحمر، في ظل مطاردة عربات الأعداء. ومن المحتمل أن يكونوا أضاعوا، في هذه الرحلة الشاقة، كتاباً (التوراة؟)، ما يفسر أن لا لغة مكتوبة لديهم إلا حديثاً.

لقد سبق اكتشافهم من <<شافي إسرائيل>> أن قروياً بينهم والرواية للمجلة المشار إليها يروي أنه رأى حلماً وأن الرب نفسه حضر إليه وكلمه في المنام واعداً إياه بإعادته إلى إسرائيل مع قبيلته. وهكذا كان. أو، هكذا يجب أن يكون. وتعجز <<إكسبرس>> عن كتمان انبهارها حيال هذا الحلم. تكتب: <<هكذا وُلدت أسطورة القبيلة المفقودة>>.

ترجم أبناء القبيلة هذا الحلم بالإقدام على ممارسة الشعائر اليهودية. وينفي أحدهم وجود أي مقاصد اقتصادية انتهازية من وراء الرغبة في العودة. ويبدو أن أحد كبار الحاخامات الإسرائيليين، شلومو عمار، اعترف بهم وأفتى بوجوب الإسراع في استكمال إدخالهم في الدين تمهيداً لدمجهم في الدولة التي أقيمت لمثل غرض استقبالهم. وجاء موقف الحاخام رداً على عراقيل وضعها البعض ضد العودة المتسرعة، وهي عراقيل عاملها أهل <<ميزو>> بصبر وأناة وحكمة: <<إن مَن انتظر 2700 سنة يستطيع الانتظار بعض الشيء>>!

موقع <<شافي إسرائيل>> على <<الإنترنت>> يفاخر بهذه المهمة الجليلة التي جعلت الدولة تكسب مقاتلين في وحدات النخبة (المظليين، غولاني، جيفاتي...)، كما يفاخر بدور المؤسسة التي نجحت في <<إعادة هؤلاء إلى اليهودية>> مقدمة لإعادتهم إلى الأرض.

تبدو هذه القصة خيالية للوهلة الأولى، لكنها حقيقية إلى أبعد حد. يمكنها أن تصلح سيناريو لفيلم مغامرات خفيفة من النوع الذي أدى بطولات فيه هاريسون فورد ومايكل دوغلاس. لكن الواقع غير ذلك تماماً. إن هولاء القوم <<جيراننا>> الآن، وفي المستقبل، وحقهم في أرض فلسطين أكثر قداسة بما لا يقاس من حق متوارثي الأرض منذ مئات السنين.

قد يبدو لنا التناقض صارخاً بين الصور المنقولة إلينا عن مستوطني غزة وبين قصة <<ميزو>>، حتى يكاد الأمر يبدو كأن درجة تعلق بعض اليهود بفلسطين شديدة الارتباط بغيابهم عنها أولاً، وبحداثة إقامتهم فيها ثانياً. فمستوطنو غزة جلّهم من القادمين حديثاً إلى حيث تحويل ملهاة إبعادهم إلى مأساة لا تكتمل إلا بصورتهم وهم يصرون على أن يصطحبوا معهم حفنة من الرمال.

ولكن، في النهاية، أليس المشروع الصهيوني كله صورة مكبرة عن هذه القصة؟ ألسنا أمام عملية هائلة لتحديث الخرافة وتدجيجها بالسلاح، والبقاء في داخلها وفي أسرها، وترك <<الانتصارات>> تعمي عن كل شيء؟

مصادر
السفير (لبنان)