هل تنجح إيران في إقناع سورية بقبول «أوراق اعتماد» حلفائها في العراق الذين باتوا يتربعون على تخت السلطة في بغداد؟

الطريف في ألغاز وتناقضات اللعبة الكبرى في المنطقة، أن ما تريده إيران من سورية هو ما يريده «الشيطان الأكبر» الأميركي منها: قطع كل علاقة مع المقاومة العراقية السنّية، من جهادية وبعثية، والانتقال إلى التنسيق والتعاون مع نظام «المنطقة الخضراء» المحمي بالقوة المسلحة الأميركية والمشمول بـ «بركة» المرجعية الإيرانية.

إيران وأميركا تضغطان معاً على سورية. نظام خأمنئي/ نجاد المحافظ يهمس في الأذن السورية ملحا على أهمية ما رآه الملك عبد الله الثاني في مرصده الأردني «هلالا شيعيا» خطرا في سماء المنطقة، فيما ترى إيران إمكانية تحويل «الهلال» إلى بدر التمام والكمال، إذا قامت بين دمشق وبغداد علاقة غرام. أما أميركا فتلجأ الى الضغط العلني والديبلوماسي مقتربة بجدار النار القتالي من الحدود السورية للقضاء على «المتسللين» نهائيا. وتعاونها مع هذا الاقتراب العسكري الخطير جوقة ضغط عراقية مؤلفة من جعفري وطالباني وبرزاني.

غير أن الغرض الاستراتيجي من الضغط على سورية يختلف عند إدارة خأمنئي عنه عند إدارة بوش. إيران تريد التغلب على عائق الجغرافيا الذي يحول دون الوصول البري بين طهران ودمشق ولبنان. في غيبة هذا الوصل، يصبح الكلام عن الامتداد الشيعي مجرد غزل رومانسي بهلال أو قمر يسبح في الفضاء.

بوش «المزنوق» في العراق عسكريا، يريد من سورية وضع حد نهائي للتسلل الجهادي إلى العراق، وقطع العلاقة مع خلايا البعث العراقي اللاجئة إلى سورية. ووجد في قضية اغتيال الحريري ورقة رابحة في الضغط، يضعها إلى أوراق أخرى، منها اتهام سورية بـ «الإرهاب» بتعاونها مع «حزب الله» اللبناني، ومع جماعات «الجهاد المسلح» الفلسطيني.

وهكذا، فإذا نجح التهديد والضغط الأميركي يكون غباء إدارة بوش قد قدم خدمة لطهران «بلا تشكرات» الملالي والآيات، في تحقيق انحياز سوري لنظام جعفري/ طالباني المتمترس في «العاصمة الخضراء».

لا يعادل غباء إدارة بوش الاستراتيجي سوى غباء الإعلام العربي. طار خصوم سورية فرحا بإعادة إنتاج خبر صحيفة كويتية بشكل آخر. وأكشف سرا إذا قلت إن مصدر خبر الصحيفة الكويتية عن اغتيال الحريري كان رجل أعمال متنقلا بين الخليج ولبنان وأوروبا، ولا علاقة له بالسياسة، لكنه ربما كان على علاقة عمل «بزنس» مع عسكريين سوريين.

وأضيف صراحة بأن رجل الأعمال نقل إليَّ ما قال انه سمع من أحد هؤلاء الضباط قبل الاغتيال بأن الحريري بات «محكوما بالإعدام». غلبتني جرأة الصحيفة الكويتية. أنا من عادتي، كما سائر الصحافيين المقيمين في أوروبا، أعرف وأسمع وأتلقى معلومات كثيرة من العالم العربي. وكما قلت سابقا، فلندن وباريس التي أقيم فيها، عاصمتان «عربيتان» تتوفر فيهما أخبار ومعلومات لا يعرفها الرأي العام العربي.

أخذت أقوال رجل الأعمال على غير محمل الجد. مجرد كلام وإشاعات واستنتاجات مؤلفة. جميل السيد مدير الأمن العام اللبناني السابق، المعتقل حاليا، تصرف تصرفَ «المريب الذي يكاد يقول خذوني». فقد ركب الطائرة وذهب إلى الكويت، ليقيم دعوى قضائية على الصحيفة لتأكيد «براءته».

الإعلام العربي ليس في ذكاء الصحيفة الكويتية. فقد تولى، صحافيا وتلفزيونيا وإذاعيا، نشر خبر ضابط الأركان السوري «الهارب» الذي أذاعته وكالات الأنباء العالمية، من دون تمحيص وتقص لهوية مصدر الخبر. وهو هنا ليس الصحيفة الكويتية، إنما وكالة «انتلجنس» تعمل على «الإنترنت». في سؤالي لأول وهلة عن هوية هذه الوكالة التي لم تثر شبهة أو مجرد سؤال إعلامي عربي، أكتشف أن دماء إعلامية يهودية تجري في عروقها، فأحد مدرائها يحمل اسما يهوديا محرفا عن العربية بحكم كونه ـ على ما أعتقد ـ من يهود الـ «بييه نوار» المهاجرين من أحد بلدان المغرب العربي.

السؤال هنا: لماذا سربت المصادر الأميركية «سر» الضابط السوري «الهارب» إلى وكالة تعج باليهود؟ ربما لأن للوكالة علاقة عمل مع مؤسسة «راند» الأميركية المحافظة للدراسات والبحوث. وتولت الوكالة المهمة بالذكاء الإعلامي اليهودي، فكان له مفعول «إعصار كاترينا» في الفضاء الإعلامي والسياسي العربي.

قد يكون خبر «الضابط الهارب» صحيحا، والمعلومات التي يقال إنه أدلى بها إلى المحقق الألماني الدولي «ميليس» صحيحة. لكن إذا كان هذا «الملس» قد سرب هذه المعلومات إلى «المصادر» الأميركية، فتولت نقلها إلى مراكز البث اليهودية، فهو قد خان أمانة المحقق القضائي النزيه والمحايد، ولا سيما انه ـ مع نشر هذه الكلمات ـ المفروض انه موجود في دمشق «للتحقيق» مع كبار عسكريين وسياسيين.

أكرر فأقول إن خبر الضابط السوري «الهارب» الذي قيل إنه كان «يدير» مكتب مدير المخابرات العسكرية اللواء حسن خليل، قد يكون صحيحا. والأرجح أن اللواء خليل فقد منصبه قبيل أو بعيد أيام من اغتيال الحريري، وحل محله نائبه اللواء آصف شوكت صهر بشار. وبذلك تكون العائلة الرئاسية قد أحكمت أيضا سيطرتها على الجهاز المخابراتي الذي يتولى مسؤولية الملف اللبناني. وسواء كان الخبر صحيحا أو غير صحيح، فغرضي من هذه التفاصيل، هو تنبيه الإعلام العربي إلى التأكد من مصدر الخبر وهوية الناشر، قبل التطوع بنشره وتداوله.

أعود إلى اللعبة في المنطقة، لأقول إن عدم حسم سورية موقفها من النظام العراقي يعود إلى تردد الرئيس بشار الذي لا يملك حرية القرار الذي كان يملكه أبوه. فالرجل نهبٌ لمراكز قوى داخلية متعددة، ومواقفها متباينة إزاء العراق. بعضها مع الاستمرار في إيواء وتأييد خلايا البعث العراقي. وهذا ما يفسر سر «التسلل» و«التمويل» لدعم المقاومة. وبعضها يجنح إلى قبول نصيحة إيران بالوقوع في «الحفرة» التي تحدث عنها طالباني منبره الأميركي.

أين يقف بشار وسط تناوش القوى الداخلية لقراره، وأين هو في صخب هذا الضجيج الخارجي عليه؟

أغلب ظني، وأرجو أن أكون مخطئا، فهو أميل إلى القبول بالنصيحة الإيرانية. العلاقة مع إيران في عهد بشار أشد عمقا وإحكاما مما كانت عليه في عهد الأب الراحل رائدها ومكتشفها في عام 1979 عندما انهارت آماله في تحقيق وحدة اتحادية مع عراق صدام والبكر.

منذ وفاة أبيه، طار بشار مرتين إلى طهران. الزيارة الأخيرة تمت بعد انتخاب الرئيس المحافظ أحمدي نجاد، ليكون كما قال له «أول المهنئين».. وربما آخرهم، وليرسم معه ومع خأمنئي «تصورا مشتركا» للدور الإيراني ـ السوري في المنطقة، في مواجهة الضغوط والتهديدات الأميركية للبلدين. لقد أبلغه خأمنئي ونجاد وسابقا خاتمي أن إيران ستقوم بإسناد سورية، في حالة تعرضها للغزو. لكن هل إيران قادرة على نجدة سورية عسكريا واستراتيجيا، إذا ما قررت أميركا نقل معركتها المسلحة إلى داخل سورية؟ الصوت الإيراني الملح والهامس في أذن الرئيس السوري يؤكد له أن إيران قادرة على نجدة سورية، عبر العراق، شرط أن تصل سورية بشار وتتواصل مع النظام الشيعي في بغداد.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)