بعد غد الاثنين, سوف تشهد إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها, معركة انتخابية بالغة الأهمية. ومع أن هذه المعركة تتصل بتحديد مصير وموقع حزب "الليكود" في الساحة السياسية الإسرائيلية, إلا أن لها صلة بتقرير من يقود الحزب في المرحلة المقبلة, رئيس الوزراء الحالي إرييل شارون أم غريمه بنيامين نتانياهو؟ وفيما لو أدليت بصوتي في تلك الانتخابات, لما ترددت لحظة في منح صوتي لبينيامين نتانياهو. وإنني أدعوكم أن تصلوا وتدعوا لأن يُسحق شارون في هذه الانتخابات, حتى يتم طرده نهائياً من حزب "الليكود". فذلك هو المكان الطبيعي الذي ينتمي إليه. مالي أراكم تفغرون أفواههكم وتسألونني مندهشين... لماذا؟! حسناً, سأوضح لكم الأمر: فحين يكون حزب "الليكود" بقيادة نتانياهو وفي غياب شارون, فتلك هي اللحظة التي يتسنى فيها لحزب "الليكود", أن يكون حزب "الليكود", بمعنى أن ينفرد بتمثيل "اليمين" الإسرائيلي المخبول, وأن يكون الحزب المتطرف والطائش الذي يريد. وعندها سيتمتع شارون بحرية أن "يكون ذاته", وأن يشكل حزباً جديداً بالتعاون مع شخصيات سياسية من "يمين الوسط" و"يسار الوسط", يتوقع له أن يحظى بأغلبية شعبية واسعة, قادرة على فتح الطريق, أمام إبرام تسوية نهائية شاملة مع الجانب الفلسطيني. بيد أن إبرام صفقة كهذه مرهون بقدرة الفلسطينيين على توحيد إرادتهم السياسية, وإحالة قطاع غزة – دولتهم الصغيرة الراهنة- إلى شيء أكثر شبهاً بدبي منه إلى مقديشو!

من جانبه يرى ديفيد ماكوفسكي –من معهد واشنطن للسياسات الشرق أوسطية, ومؤلف دراسة حديثة نُشرت مؤخراً عن خطة الانسحاب من قطاع غزة- يرى أن السبيل الوحيد لإبعاد شارون عن حزب "الليكود", والاتجاه إلى تأسيس حزب جديد له, هو اقتناعه بأنه لم يعد يمسك بزمام الأمور في حزبه القديم, ومن ثم لم يعد قائداً له كما كان. وعلى حد قول ماكوفسكي, فإن على الأرجح أن يؤدي الانقسام داخل صفوف حزب "الليكود", إلى إعادة رص وفرز الأحزاب السياسية الإسرائيلية, بحيث تصبح هذه الأحزاب, أكثر قرباً من المرآة العاكسة لحقيقة الرأي العام الإسرائيلي. والشاهد الآن, أن ثلثي الشارع السياسي الإسرائيلي, تدعم مشروع حل الدولتين المستقلتين, طريقاً للتسوية الشاملة مع الفلسطينيين. وفي داخل حزب "الليكود" نفسه, يوجد قسم من هذين الثلثين, يمثله الزعيم الحالي إرييل شارون. وقد درجت على تسمية العناصر الممثلة لهذا التيار داخل الحزب بـ"المساومين الأشداء". يقابلهم الثلث الثالث المعارض من حيث المبدأ لفكرة الحل السلمي, وجميع هؤلاء داخل حزب الليكود, وهم ممن يسمون بـ"المتشددين". وكثيرون من أتباع هذا التيار يرون نتانياهو قائداً مثالياً وحاملاً للأفكار التي يؤمنون بها.

في مقابل هذا, فإن في وسع حزب سياسي جديد, مؤلف من أنصار شارون, إلى جانب المعتدلين من حزبي العمل و"شينوي", بعث روح وطاقة سياسية جديدة في الوسط السياسي الإسرائيلي, الذي قصمت ظهره دورة العنف والإرهاب, التي شهدتها البلاد خلال السنوات الممتدة بين عام 2000 و2004. وتكمن هذه الحيوية المرتقبة, في قدرة الحزب الجديد على لم وتوحيد صفوف الثلثين المؤيدين لاتجاه إبرام صفقة سلام مع الفلسطينيين, تقوم على أمن الحدود الإسرائيلية المشتركة معهم. ذلك هو ما يقرره "ماكوفسكي" في دراسته المشار إليها آنفاً. وفي وسع خطوة كهذه, أن تكون ورقة رابحة, طالما أن حركة "حماس", لن تعود مجدداً إلى إطلاق صواريخها وشن هجماتها الانتحارية على الإسرائيليين. وللعلم فإن هجمات كهذه, لن تعود بأي مردود سياسي, سوى تعزيز جناح نتانياهو.

يُشار هنا أن الحوار والزخم الناشئين عن خطة الانسحاب من قطاع غزة, قد كشفا عن حقيقة ما يمور من تيارات واتجاهات داخل الحركة السياسية الإسرائيلية اليوم. والمقصود هنا على وجه الدقة والتحديد أن الوجود السابق لنحو 8 آلاف مستوطن يهودي, يعيشون في ثلث القطاع, ويحيط بهم ما يربو على 1.3 مليون فلسطيني, قد كشف عن جنون ومغامرة عبثية, لا صلة لها البتة بأي منطق استراتيجي أو ديموغرافي أو قومي أو أخلاقي. لذا فقد دمغ أولئك الذين يؤيدون اتجاه الاستمرار اللانهائي لمستوطنات القطاع, أنفسهم بدمغة الجناح اليهودي المتعصب, الذي بات يشكل خطراً ماحقاً على مستقبل إسرائيل, والشعب اليهودي برمته. ومعلوم أن هذا التيار يشمل كافة العناصر المتشددة داخل حزب "الليكود".

وكما لاحظ "آري شافيت", المحلل الصحفي بجريدة "هآرتس" الإسرائيلية, فقد برزت إلى السطح السياسي الإسرائيلي دولتان, إثر تنفيذ خطة الانسحاب من قطاع غزة, إحداهما دولة إسرائيل, والثانية هي دولة حزب الليكود. والمفارقة بين هاتين الدولتين, أن دولة إسرائيل تريد السيادة والحدود الإقليمية والدولية, إلى جانب هوية واضحة ومحددة لها. أما دولة الليكود, فتتشبث بالمستوطنات, وتريد خليطاً من السكان والمواطنين, إلى جانب هوية ضبابية ومبهمة المعالم. كما تريد دولة إسرائيل الديمقراطية والعقلانية والاستنارة. مقابل ذلك, تسعى دولة الليكود إلى إشاعة الفساد وتنفيذ سياسات الإهانة و"الضرب على القفا", ولا يهدأ لها بال إلا عندما تهب الأعاصير والعواصف الوجدانية. وفيما مضى, كانت دولة اليهود قد احتكرت امتياز تمثيل الشعب اليهودي. غير أنها لم تعد كذلك البتة الآن. "وها قد حانت لحظة الاختيار: فإما إسرائيل, أو دولة الليكود... أي جمهورية إسرائيل أو جمهورية اللجنة المركزية لحزب الليكود! وهكذا يبدو عصياً ومتعذراً للغاية, تقسيم الأرض بين طرفي النزاع, بدون شق صفوف حزب الليكود وإحداث انقسام داخلي فيه أولاً. وبالقدر نفسه, سيصعب ترسيم حدود دولة إسرائيل, دون أن يسبق ذلك ترسيم حدود حزب "الليكود" نفسه." ذلك هو ما أكده آري شافيت, المحلل الصحفي المذكور آنفاً.

ثم إليكم قراءة المناخ الدولي المحيط بالتسوية المرتقبة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. فهناك الغزو الأميركي للعراق. وهناك ضغوط العولمة, وهناك الطبقات الوسطى الصاعدة, المتطلعة إلى الاستقرار. أضف إلى ذلك كله, رحيل جيل كامل من قادة العالم وشخصياته الكاريزمية المؤثرة. وكل هذه العوامل المناخية الجديدة, تلقى بتداعياتها وآثارها سلباً على جميع الترتيبات السياسية السابقة, التي طالما شكلت السياسات الإسرائيلية- الفلسطينية على امتداد عدة عقود.

وضمن تحولات الواقع السياسي الراهن في المنطقة, فقد جرى إرغام سوريا على مغادرة الأراضي اللبنانية, بينما تطوعت إسرائيل بتنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة, في حين عقدت مصر أول انتخابات رئاسية لها. إلى ذلك, فقد تآكلت السلطة الفلسطينية, على إثر رحيل قائدها السابق ياسر عرفات. وفي بغداد, تمكنت إدارة بوش من الإطاحة بالبعثيين وتفكيك حزبهم. وختاماً فإن ما يمكن قوله إجمالاً, هو أن قوانين الجاذبية الأرضية, قد فرضت شيئاً من تحولات السياسة الواقعية على منطقة الشرق الأوسط, فيما عدا تلك الدول العربية الغنية بالنفط. فهل تشمل رياح التغيير هذه, دولة إسرائيل؟

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)