تشكل "الدراسة التاريخية الاجتماعية لمدينة صفد في عهد الانتداب البريطاني" التي أعدها مصطفى العباسي() صورة عن مجمل تاريخ فلسطين في تلك الحقبة من الزمن.لكن العمل التأريخي لمدينة صفد يمتاز عما سواه أنه يسمح أيضاً للقارىء بأن يتخيل ما يمكن أن تكون آلت اليه الاوضاع في فلسطين والعلاقات بين يهودها وعربها لو لم يحدث المشروع الصهيوني،ولو لم تقع الهجرة اليهودية، ولو لم تقم دولة اسرائيل. وما يعطي لهذه الدراسة أهميتها الاستثنائية أن كاتبها أولى أهمية خاصة للتركيبة الاجتماعية والديموغرافية لمدينة صفد في أواخر العهد العثماني متوقفا بصورة خاصة عند العلاقات التي سادت بين السكان العرب واليهود،مما يدفعنا الى طرح هذا السؤال الافتراضي: ترى لو لم تنشأ الصهيونية ألم يكن بإمكان فلسطين ان تكون وطناً جامعاً ومشتركاً بين اليهود والعرب؟

تجربة التعايش اليهودي العربي

رغم التفاوت في الارقام والاحصاءات للتركيبة الطائفية لمدينة صفد خلال الفترة الممتدة من1840 الى 1918،إلا ان كل المعطيات تشير الى ان المدينة كانت خليطاً من مسلمين شكلوا ما نسبته53,76 في المئة ويهود بلغوا 46,13 في المئة وأقلية مسيحية لم تتجاوز0,11في المئة. بمعنى آخر كان هناك شبه تساوٍ بين اليهود والمسلمين في المدينة.أما يهود المدينة فغالبيتهم كانوا من الأشكينازالذين اتوا الى المدينة من أطراف الامبراطورية النمسوية - المجرية في شرق أوروبا ومن المتدينين المتشددين الذين كانوا يعيشون على أموال الصدقات والتبرعات التي تأتيهم من يهود أوروبا، ونسبة أقل من اليهود الشرقيين من أصول عربية أتوا من مراكش والجزائر وايران كانوا يتحدثون اللغة العربية وكانوا أقرب في حياتهم من عادات السكان العرب. وهؤلاء كانوا غير مرتبطين بأموال العون الخارجي وشكلوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي للمدينة فعملوا في الصناعات الخفيفة والتجارة. كما كان صيد السمك في بحيرة الحولة تحت سيطرة يهودية.

خلال الحكم العثماني بدا واضحاً التعايش والتعاون بين الطائفتين الكبيرتين في المدينة مع تنافسهما في مجال التجارة التي استطاع العرب شيئا فشيئا انتزاعها من يهود المدينة. اما العلاقات بالمستوطنات الزراعية الاولى التي أقيمت في سهل الحولة، مثل يسود همعلا ومشيمار هيردين، فكانت طبيعية. النكبة الاولى التي حلت بيهود المدينة اتت نتيجة الضائقة الاقتصادية والمجاعة اللتين خلفتهما الحرب العالمية الاولى. أتت بعد ذلك الاضطرابات بين اليهود والعرب وتصاعد نشاط الحركة الصهيونية في فلسطين. فخلال السنوات 1918 - 1945 انخفض عدد السكان اليهود من 2986 نسمة أي ما نسبته34 في المئة من السكان، الى 1952 نسمة أي 16,36في المئة فقط.ورغم هذا كان لهم ثلاثة أعضاء من مجموع سبعة أعضاء في المجلس البلدي بالاضافة الى توليهم منصب نائب المجلس، ولم ينخفض التمثيل اليهودي في المجلس الى عضوين الا عام 1944.

التناقص المستمر في عدد اليهود في تلك المرحلة يعود في جزء منه الى الضائقة الاقتصادية بعد الحرب وبدء الاضطرابات بين اليهود والعرب مع أحداث حائط البراق. يقول الكاتب انه حتى هذه الاحداث عام 1929 سادت علاقات طبيعية بين اليهود والعرب سواء على الصعيد الحياتي اليومي ام على الصعيد الاقتصادي، وما لبث ان تفاقم وضع اليهود في المدينة بصورة كبيرة خلال ثورة1936-1939.

من التعايش الى العداء

لدى رصد تصاعد العداء بين اليهود والعرب من سكان صفد توقف الكاتب عند عدد من العومل التي يمكن اجمالها كالآتي: الدور الذي لعبه تضخيم الشائعات الواردة من حيفا والقدس، التحريض الكبير الذي قام به زعماء فلسطينيون من خارج مدينة صفد مثل صبحي الخضرا وتقاعس سلطات الانتداب عن اتخاذ التدابير التي تحول دون وقوع صدامات دامية مثل الهجوم على الحي اليهودي للمدينة الذي لم يستمر اكثر من عشرين دقيقة أسفر عن مقتل 12 يهودياً وجرح 33 آخرين.

أسفرت أحداث 1929 عن صدور احكام بالإعدام على 14 عربياً وبالسجن المؤبد على14 آخرين الى جانب عقوبات اخرى، وبلغ عدد المعتقلين263 مما أدى الى نشوء مشكلة اجتماعية لعائلات هؤلاء الذين سموا بمنكوبي صفد.

مسؤولية تسميم العلاقات بين اليهود والعرب في صفد يتحملها الطرفان ولقد توقف الكاتب عند ذلك في صفحات كتابه. على الصعيد العربي تحدث عن "التحريض الديني الأرعن" وعن محاولة الزعماء المحليين استغلال النزاع لتوطيد سيطرتهم على المدينة وعن تصاعد دور الشباب الميال الى استخدام الاساليب العنفية مثل تنظيم "الكف الاخضر" و"جمعية الشبان العرب" وغيرها. ولكن يلاحظ الكاتب انه مع نهاية ثورة1936-1939 واندلاع الحرب العالمية الثانية طرأ تحول ايجابي على علاقة اليهود بالعرب في صفد فتجددت العلاقات التجارية والاجتماعية وعاد التعايش بين أبناء الطائفتين، واستمر هذا التحول الايجابي حتى عام 1943 حين اندلعت النزاعات على الاراضي من جديد وادت الى القطيعة الكاملة بين الطرفين.

في تللك الفترة بدأت الوكالة اليهودية بشراء كميات هائلة من الاراضي الزراعية المحيطة بصفد لتقيم عليها مستوطنات زراعية. وهنا يمكن الاشارة الى عدد من النقاط التي ساهمت في اذكاء النزاع:كان الملاكون من السوريين واللبنانيين الغائبين هم الطرف الاكبر الذي باع أراضيه للمؤسسات الصهيونية، وتشير الارقام الى مساحات تجاوزت 65 ألف دونم وفقاً للأرقام الفرنسية. هذا الى جانب اقدام عدد من ملاكي صفد الكبار والصغار على بيع أراض لليهود. ولم تنجح المحاولات العربية في انشاء صناديق دعم مثل صندوق الامة، الذي كان يجمع التبرعات بهدف شراء الاراضي المنوي بيعها لليهود، في وقف موجة الاستملاكات اليهودية الضخمة للأراضي في صفد وجوارها.

تدمير الوجود العربي في صفد

يتناول المؤلف في الفصل الحادي عشر من الكتاب الرواية التي يعتبرها الاكثر موضوعية لسقوط صفد وذلك بتبنيه المقاربة التي اعتمدها المؤرخون الاسرائيليون الجدد في اعادة النظر في التأريخ الرسمي لحرب 1948.فيِؤكد معتمداً على الارشيف الاسرائيلي والعربي والبريطاني ان معركة صفد لم تكن كما هي بحسب الرواية الرسمية الصهيونية مواجهة بين "أقلية يهودية معزولة" وأكثرية عربية عدوانية، وانما بين مجموعات مقاتلة ومنظمة من البلماح والهاغانا المسلحة تسليحاً جيداً والمدربة على فنون القتال والمؤتمرة بقيادة عسكرية مركزية واحدة، ضد مجموعة من المقاتلين العرب غالبيتهم من المتطوعين وجزء ضئيل منهم كان مسلحاً، يفتقرون الى التنظيم والخبرة في القتال العسكري ويعانون من تشرذم القيادة واختلاف الزعماء السياسيين على كيفية ادارة المعركة في صفد. ويعيد الكاتب سبب الهزيمة التي مني بها العرب الى الآتي: الاستهانة العربية بقوة الهاغانا والبلماح، النقص في الذخيرة وصعوبة نقلها نظرا لحالة الحصار،وعدم التنسيق في القيادة.

مع حلول مساء 11أيار 1948 لم يعد هناك أي وجود عربي في صفد. فبعد ان دخلتها قوات البلماح والهاغانا، ورحيل أهلها عنها بعد مقتل العديد من شبابها وأهلها أنتهت حقبة في تاريخ المدينة. يسأل الكاتب: اين ذهب 12ألف مواطن عربي؟ لماذا نزحوا؟ هل فروا كما تقول المصادر الاسرائيلية أم طردوا كما تقول المصادر العربية؟ يفصّل الكاتب في صفحات كتابه عمليات النزوح العربي عن المدينة التي تمت على ثلاث مراحل: الاولى بعد انسحاب البريطانيين، والثانية بعد احتلال قرية الزيتون القريبة من صفد وتدميرها تدميراً كاملاً على أيدي الصهاينة، والثالثة جاءت بعد القرار الذي اتخذته قيادة البلماح بطرد السكان بقصف الاحياء العربية بمدافع الهاون وراجمات كان يطلق عليها اسم دافيدكا كانت تحمل كميات كبيرة جداً من المواد المتفجرة مما أدى الى حالة هلع وذعر بين المدنيين العرب ونزوح كثيف. اما الكبار في السن والمرضى الذين بقوا في المدينة وعددهم 137 شخصاً فقد تقرر طردهم فوراً الى لبنان وسوريا ونقلوا الى دير في حيفا.

ولمنع الآف المواطنيين الذين لجأوا الى الاودية والحقول من العودة الى مدينتهم قامت الهاغانا بقصفهم بالطائرات لتعجيل عملية فرارهم. وقامت القوات الاسرائيلية بنسف حارات في صفد بأكملها مستكملة بذلك عملية التدمير المنهجي للوجود العربي في صفد.

ما حدث لمدينة صفد صورة طبق الاصل لما حصل للمدن الفلسطينية الكبرى مثل حيفا ويافا وعكا. وقراءة ذلك اليوم في ضوء ما يحدث للفلسطينيين في غزة والضفة يحمل أكثر من عبرة. الفلسطينيون اليوم مرة أخرى عليهم وحدهم تدبر بناء ما "تبقى لهم" من أرض ووطن، فهل ينجحون؟

مصادر
النهار (لبنان)