بالإذن من الفنان العربي الكبير عادل إمام، لم أعد استبعد أن يعتزل المحقق الدولي ديتليف ميليس القضاء ...«ليشتغل رقّاصة»! فالخفة التي يتعامل فيها اللبنانيون، كل اللبنانيين تقريباً، مع تحقيق في خطورة ما أوكل إلى ميليس إجلاء غوامضه تتجاوز حدود المعقول ...و«قدسية» مبدأ العدالة.

فالإعلاميون ـ ونفر منهم لا يعرف من الإعلام إلا اسمه ـ يتوقعون من المحقق الألماني الحصيف، الحريص على سلامة التحقيق، أن يكشف في إجاباته على أسئلتهم السطحية الساذجة خفايا استطاع ميليس بطريقة أو بأخرى إماطة اللثام عنها.

وأهل السياسة يتعاملون مع مهمة ميليس، المستمرة على وقع مسلسل التفجيرات الإجرامية، وكأنهم في «ساحة قتال» ...همهم تصفية الحسابات والمشاغبة على سير التحقيق أو التشكيك بجدواه ناهيك من نزاهته. وعندما يصل «قانونيو» المجتمع السياسي في لبنان إلى الاستخفاف بالقضاء وآلياته وأجهزته بالصورة التي نرى ونسمع من داخل مجلس الوزراء نفسه ...فإنهم إذ ذاك يمزّقون آخر شبكة أمان للوطن والمواطن.

أما المواطن المهدّد كل يوم في حياته ورزقه فيعيش أيامه ساعة بساعة، ضائعاً، خائفاً، محتاراً، تتقاذفه التصريحات وحملات الردح يمنة ويسرة. بل لقد امتدت هذه الحالة المؤلمة إلى لبنانيي الخارج، الذين اعتادوا في ديار غربتهم على حد أدنى من المنطق، فإذا بمتابعتهم القلقة ما يجري في بلدهم تعيد فتح جروح الحرب وهواجسها إزاء «الطرف الآخر».

ما الذي يجري بالضبط في لبنان؟

ما هي الجهة التي تصر على مواصلة مسلسل التفجيرات؟ وهل هي يا ترى جهة واحدة؟ أم أن ثمة جهات أخرى معادية «دخلت على الخط» لاستغلال المستجدات وسوق الأمور باتجاه مصالحها؟

ثم، إذا كانت الجهة التي تتهمها اليوم «أغلبية نسبية» من اللبنانيين بالتورّط في مسلسل التفجيرات ـ سواء بالأصالة أو الوكالة أو التكليف ـ هي حقاً الجهة الجانية، أو ليس من العقل أن تتوقف برهة لمراجعة «تكتيكها» وإجراء جردة للأرباح والخسائر؟

أليس في مصلحة مَن يجد نفسه في حفرة عميقة أن يكف عن الحفر؟

من خلال ما يرشح من تصريحات واتصالات ولقاءات لم يحصل حتى الآن تطور إيجابي واحد يسهم في تخفيف الضغط عن دمشق، لا في العاصمة السورية ...ولا خارجها. مع العلم أن اتخاذ إجراءات عقابية ما بحق بعض المسؤولين السوريين عن الملف اللبناني سيخفف الكثير من الاحتقان ويسحب حججاً كثيرة مثارة ضد دمشق، ولا سيما أن الرئيس بشار الأسد نفسه أقر بـ«أخطاء ارتكبت في لبنان».

والمعنى هنا واضح، وهو أن ثمة مسؤولين سوريين أخطأوا في ممارساتهم، وإذا كان من واجبات أي دولة معاقبة المسؤول المخطئ ...فما بالك عندما تُستغَل هذه الأخطاء للإيقاع بالدولة ككل، تحت ذرائع سياسية أوسع؟!

أكيد، لا أنا ولا غيري، نتوقع أو نريد تدابير صارمة كتلك التي اتخذها فؤاد باشا موفد السلطان العثماني إلى سورية بعد أحداث 1860. ولكن الأخطار المحدقة اليوم بلبنان وسورية ليست أقل من أخطار ما بعد 1860. والتدخل الأجنبي المتستر دبلوماسياً بالقرار الدولي 1559 يعيد حتماً إلى ذاكرة الشغوفين بالتاريخ، مثلي، صورة تقدم القوات الفرنسية بقيادة الجنرال شارل دي بوفور دوتبول باتجاه دمشق بعد احتلالها جبل لبنان.

مصلحة لبنان وسورية الآن تقتضي تسهيل مهمة ميليس، وتأمين كل ما يطلبه من قرائن وأدلة، لسببين اثنين: الأول، أن البريء لا يخاف شيئاً، إذا كان حقاً بريئاً، بل إذا كانت ثمة مؤامرة عليه فهو حكماً المعني الأول والأخير بالمساعدة على فضحها. والثاني، أن المحقق الألماني يمثل أكثر من نفسه. إنه يمثل مرجعية دولية، قد لا تكون 100% فوق مستوى الشبهات، لكنها تبقى المرجعية الوحيدة القادرة على امتصاص الصدمات ...وما أدراك أي صدمات يعدّها للمنطقة خصومها الأبعدون والأقربون.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)