صحافي سوري صديق طواه الموت قبل بضع سنوات، قال لي خلال إحدى دردشاتنا الممتعة في لندن ان الرئيس حافظ الأسد «أذكى رجل دولة في العالم العربي».

ثم تابع «عليك أن تتذكر أن علاقات الرئيس الأسد بالعواصم العالمية الكبرى، وبالذات العواصم غير الصديقة، لا ترسمها وزارة الخارجية ولا يتولاها السفراء، بل تدار عبر أشخاص مقربين موثوق بهم لا صفة رسمية لهم. وهؤلاء مولجون بنقل الرسائل وفتح الأبواب الموصدة وتقديم الاقتراحات والعروض».

وأردف الصديق الراحل «إن أشخاصاً، أو بالأصح، قنوات غير رسمية من هذا النوع لا تلزم النظام بشيء ويسهل إنكار دورها والتنصل منه إذا سارت الرياح باتجاه غير مُرضٍ أو تعذّر التوصل إلى تفاهم».

تذكّرت هذا الكلام خلال الأسبوع الماضي مع زيارة رجل الأعمال الأميركي السوري الأصل إبراهيم «آيب» سليمان إلى إسرائيل وإجرائه مفاوضات سياسية في الكنيست مع مفاوضين حكوميين إسرائيليين. وكانت شائعات قد سرت قبل الزيارة عن انخراط سليمان بمفاوضات مع مسؤولين إسرائيليين في أماكن أخرى، كما أميط اللثام عن مفاوضات موازية أجراها خبير استراتيجي ودبلوماسي سوري مع جهات إسرائيلية في أوروبا، وفي الحالتين اعتبرت دمشق نفسها، كالعادة، غير معنية!

وفي الأسبوع الفائت أيضاً بينما كنت أتابع نشرة الأخبار على القناة الفضائية السورية، الحافلة بعبارات التخوين وتهم التآمر و«الاستئثار» الموجهة إلى الحكومة اللبنانية ومناصريها، مرّ امامي على الشاشة نبأ مطبوع عن نية النائب الأميركي توم لانتوس القيام بزيارة أخرى إلى دمشق (ستكون الثالثة خلال أقل من سنتين).

ولِمَن لم يسعفه الحظ بمعرفة من يكون المستر لانتوس ـ الذي رافق رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي في زيارتها الأخيرة لدمشق ـ أقول انه نائب ديمقراطي صهيوني من أشد مناصري إسرائيل في الكونغرس، وهو يهودي مجري الأصل كان أحد الناجين من «المحرقة» النازية. وقد سبق للانتوس أن زار دمشق في العام الماضي وأدلى بتصريحات نارية كانت أقرب إلى الإملاءات بعد اجتماعاته بالمسؤولين السوريين.

وبالتالي لئن كان ممكناً التقليل من شأن «مفاوضات» ابراهيم سليمان والخبير الاستراتيجي السوري فإن منطق الأمور يفرض اعتبار ما فعله ويفعله لانتوس «مفاوضات إسرائيلية ـ سورية»... غير مباشرة.

في مطلق الأحوال، يبدو أن «حزب الله» في لبنان، الذي يتهم خصومه بالعمالة لواشنطن وتل أبيب أيضاً، لم يجد غضاضة في دور ابراهيم سليمان. إذ نقل عن احد وزيري الحزب المستقيلين الدكتور طراد حمادة قوله ان «استغراب» الزيارة «في غير مكانه لأن سورية من الأساس أعلنت ومن أيام (الرئيس) حافظ الأسد ان استراتيجيتها هي السلام».

صحيح...

هذا الكلام صحيح، فكم من مرة قالها الرئيس حافظ الأسد وكررها «السلام (مع إسرائيل) خيار استراتيجي». والمعنى البديهي هنا أن سورية لا تخطط لشن حرب على إسرائيل لتسوية نزاعها معها.

وخلال الأسبوع الماضي أيضاً أوضح السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى جانباً آخر معروفاً من الموقف السوري الرسمي عندما قال «ان سورية ليست عدواً للولايات المتحدة ... يمكننا العمل معا على الكثير من المسائل»، وأشار إلى أنه حان الوقت «للعمل كي نحدد هذه المسائل للولايات المتحدة»، كاشفاً أن دمشق حمّلت بيلوسي خلال زيارتها دمشق رسالة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش عن «استعدادها (اي دمشق) للتعاون مع واشنطن».

هنا في محاولة ساذجة لحل كل هذا الإرباك يجوز لي ولغيري التساؤل.

أولاً، إذا كان «السلام خياراً استراتيجياً»، ولا نية لدمشق لقتال إسرائيل، فكيف ستتحقق التسوية السياسية مع «العدو الإسرائيلي» الغاصب الذي يُفترض أنه لن يتحول بقدرة قادر إلى محسن كريم يتبرع بالأراضي (ومنها الجولان)، وينصف «الأشقاء الفلسطينيين» ويكف شره عن الأمة؟

ثانياً، إذا كانت سورية «ليست عدوة» للولايات المتحدة، وتسعى «للتعاون» معها، فهذا يعنى أن التحاور مع واشنطن لم يعد جريمة يعاقب عليها بتخوين الآخرين. فلماذا إذاً لا تخفف دمشق سخطها على الحكومة اللبنانية المسكينة التي لم تتفاوض حتى الآن مع إسرائيل؟ ولماذا لا تقنع «حزب الله» ـ الذي لا يحتاج إلى إقناع ـ بأن أميركا لم تعُد «الشيطان الأكبر»؟

ثالثاً، دأبت دمشق منذ سحبها قواتها العسكرية من لبنان، وبدئها حربها الفعلية لاستعادة السيطرة عليه، على الرد على كل الوساطات العربية وغير العربية بـ«لازمة» لا تتغير هي «نحن مع كل ما يُجمع عليه اللبنانيون»!!! طبعاً لم يقل لنا أي مسؤول شقيق أين يتوافر الإجماع؟ في أي دولة أو قبيلة أو قرية في العالم يوجد إجماع سياسي بين مكونات مجتمعها؟ ثم ... هل مسموح للجيران في حال تعذر الإجماع بتسليح أحد فريقي الخلاف وتحريضه ... وتخوين الفريق الآخر وتهديده في أمنه ومعيشته؟

رابعاً، يتذكر كل من تابع بدقة أحداث المنطقة المحطات الأساسية في تعامل دمشق مع الملفات الإقليمية الساخنة منذ نهاية عام 1970. ويتذكر بالذات موقفها الفعلي من المقاومة الفلسطينية، ومن الحرب اللبنانية، ومن الحرب العراقية الإيرانية، ومن حرب تحرير الكويت. ولا يحق لأحد لوم العقلية «البراغماتية» للحكم السوري على استثمار كل الفرص المحلية والدولية المؤاتية لحماية النظام، ولكن في المقابل، هل ما هو «حلال» لدمشق «حرام» على غيرها؟

إن العتب ـ كما يُقال ـ على مقدار المحبة. وما هو حاصل اليوم من مآس وويلات في العراق وفي لبنان وأيضاً على الساحة الفلسطينية، وفي ضوء ما سبق لي التطرق إليه من مقولات «أن السلام خيار استراتيجي» و«أن سورية ليست عدوة للولايات المتحدة بل مستعدة للتعاون معها» يستحث على عتب كبير.

فلا يجوز أن يدفع أبرياء العراق ولبنان وفلسطين ثمناً باهظاً من حياتهم وحياة فلذات أكبادهم وممتلكاتهم واقتصادهم لمجرد تحسين شروط التفاوض مع إسرائيل والولايات المتحدة.

ولا يجوز زرع الفتنة والدمار وضخ سموم التفرقة الطائفية والأحقاد الفئوية في الأرض العربية لابتزاز واشنطن وإقناعها بعقد صفقة توكيلية مربحة.

وحتماً، لا يجوز سياسياً وقومياً المقامرة بمصير وحدة العراق ووحدة لبنان ومستقبل فلسطين عن طريق جعل المنطقة مسرحاً مفتوحاً للتناهش والتصارع بين إيران وتركيا وإسرائيل، وتهجير الملايين نحو المجهول البعيد ... لكي يطمئن البعض إلى أنه أصبح «الوسيط الإقليمي» للقوى التي يتهم الآخرين بالعمالة لها.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)