بمراجعة الدراسة المسهبة التي وضعتها الباحثة الهولندية مارتن فان بروينسّن عن الإسلام الأصولي الأندونيسي، تتقدم المعرفة بمصادر الارهابيين الذين نفّذوا عملية بالي الأخيرة، بعدما كانوا نفّذوا عملية أكبر في الجزيرة السياحية نفسها أواخر 2002. ويتضح، أبعد من ذلك، أن التاريخ الحديث لذاك الأرخبيل، منظوراً اليه من الزاوية هذه، شديد التقاطع مع مثيله المصري. فكثيراً ما ينتاب من يراجع تجربة سوكارنو وسوهارتو أنه يدرس تجربة عبد الناصر والسادات. كذلك تستدعي الحركات الاسلامية الاندونيسية فصولاً في مسار حركة الإخوان المصرية. ومن دون التقليل من حجم العنصر الثقافي، وهو ما يفسّر الأصول العربية لمعظم قادة الحركات الأصولية، تبعاً لصلة الانبعاث الديني بتعلّم العربية، كما يتجلى في الدور المركزي لـ»المدارس»، تبقى بضعة حقائق سياسية باهرة صافعة:

فقد شربت الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الهولندي، مع سوكارنو، من مياه الاحتلال العسكري والرجعي الياباني خلال 1941-45. هكذا تعاون مؤسس الجمهورية، ثم سوهارتو الذي انقلب عليه، مع اليابانيين الذين تولّوا، هم أنفسهم، تسييس الأصوليين - الدعويين حتى ذاك الحين - وتسليحهم (راجع التجربة المصرية التي جمعت المصري وماهر والمراغي والاخوان ومصر الفتاة ضد القصر المتحالف مع البريطانيين). وفي ما بعد، انطلق التنافس الضاري بين الأنظمة العسكرية والحركات الدينية من موقع الطرفين في المسألة الوطنية، والمزاودة في الصراع ضد الاستعمار. فكان التمرد الاسلامي في مناطق ثلاث وكان القمع الذي سلكه سوكارنو ما بين 1949 و1962. لكن العلاقة تراوحت دوماً بين القسوة (سوكارنو/عبد الناصر) والتقارب الانتهازي (بدايات حكم السادات، وبدايات حكم سوهارتو ونهاياته)، لا سيما حين كان يوحّد الطرفين مصلحة مشتركة ضد الحداثة في أحد تعبيراتها (الأقليات، الغرب، الشيوعية، السياحة...).

والراهن أن العام 1965 سجّل التحالف بين سوهارتو، قائد حامية جاكرتا آنذاك، والرعاع الديني المسلح الذي قضى على أكثر من 300 ألف قتيل شيوعي، بذريعة قيامهم بانقلاب منسّق مع الرئيس سوكارنو (لم يتأكد حصوله) للتخلص من «الرجعية العسكرية- الدينية».

لكن سياسة سوهارتو الدولتية، وهو صاحب «النظام الجديد»، لم تترك كبير مجال لغيرها، مجبرةً الأحزاب جميعاً على الانضواء تحت خيمته. وبدورهم، لجأ الاسلاميون غير المذعنين لسلطته الى التعليم، وقلةٌ منهم الى الارهاب، فولدت حركة «التربية» التي أنشأت «حلقات» تدريس في المساجد توازيها جماعات نقاش سرية تُعرف واحدتها بـ «الأسرة» تيمناً بالاخوان المصريين، تنعقد في البيوت. وكانت الثورة الايرانية ألهمت جواً طلابياً اسلامياً وأغرته بفعالية النشاط المباشر. وفي 1981 كان في إس نايبول قد شاهد احدى دورات التدريب لطلاب اسلاميين اندونيسيين وأدرج ملاحظاته في كتاب شهير اصدره بعنوان «بين المؤمنين» رصد فيه حال العالم الإسلامي بعد ثورة إيران. وبحرب افغانستان تدفقت المعونات المالية والدعوية على وسطٍ بدا أبو بكر باعشير جهازه المحرّك. وباعشير ربما كان أحد أمهر الناشطين والمنظّمين الذين عرفهم القرن العشرون. فهو ابتدأ مع شبكة مدارس «دار الاسلام» في جاوا، المعروفة بـ»بيزترن»، أي المدرسة، وكان يشرف عليها، إلى جانبه، أستاذ آخر يشاركه التفرّع عن أصول عربية، هو عبد الله سنقار. وقد سبق لحكومة سوهارتو أن ربطت بين نشاطاته، هو الرافض الذوبان في «النظام الجديد»، وبين «كوماندو الجهاد» الذي نُسبت اليه أعمال إرهاب متفرّقة. وتأدى عن الاتهام هذا اعتقال باعشير وآخرين، في 1978، ثم لجؤهم الى ماليزيا التي حوّلها خلافها مع سوهارتو فردوساً للمنفيين والهاربين. ومن ماليزيا انتقل كثيرون من هؤلاء الى «الجهاد» في أفغانستان، ما تسبب بتكاثر التهم غير المؤكدة عن علاقة باعشير ببن لادن، علماً أن الأول امتدح الثاني بوصفه «مجاهداً إسلامياً حقيقياً». غير أن باعشير أسس في ماليزيا «الجماعة الاسلامية» التي ضمت شباناً تتلمذوا عليه من ماليزيا نفسها ومن جنوب الفيليبين وسنغافورة وتايلنده، فضلاً عن أندونيسيا. وقد ربط القائد المنظّم بين هؤلاء جميعاً بشبكات عدة أنتجت إحداها صاحب الاسم الحركي الذي دخل الارهاب من أوسع أبوابه: حمبلي.

لكن سوهارتو تغير في التسعينات، إبان تعاظم الانتقاد الغربي لحقوق الانسان في بلده، وخوفاً من تحرك ضده يقوده الجيش، وكذلك في ظل تأثير الاسلاميين الذين انضموا الى حزبه «غولكار» ثم برزوا فيه (راجع تجربة كمال أبو المجد مثلاً في مصر). وجاءت أزمة 1997 الآسيوية - الروسية التي قوّضت بعض دعائم الاقتصاد الأندونيسي، تفاقم الميل هذا، مُطلقة ما لم يكن توقعه ممكناً: فقد سُمح بإنشاء «رابطة المثقفين المسلمين» ممن رعاهم أحد اسلاميي «غولكار»، ب ج حبيبي، الذي حل لاحقاً محل سيده سوهارتو. كذلك أتيح لهم إصدار صحيفة تنافس الصحافة التي تعود ملكية معظمها الى مسيحيين، وتزايد العمل بالشريعة في المحاكم، كما أُخرج من الحكومة الوزراء المسيحيون ممن تولوا الحقائب الاقتصاية وحل محلهم وزراء مسلمون. وباتت جماعة «الدعوة»، من ناحيتها، تدافع عن سوهارتو الذي احتكر نقدَه الليبراليون وميغاواتي سوكارنو واليساريون ومعهم عبد الرحمن وحيد الذي راح يؤكد على تزاوج الإسلام والديموقراطية وحماية الأقليات. والأخير، كما هو معروف، يتفرّع عن أقدم تفاليد الاسلام السياسي ممثلاً في «نهضة العلماء»، تلك الحركة الدعوية-التربوية التي أسسها جدّه في 1926، قبل عامين على تأسيس حسن البنا إخوانه في الإسماعيلية.

لكنْ في 1999، ومع انفجار النزاع المسيحي-المسلم في جزيرة مولوكاس، تعاظم التسييس الديني عموماً واجتذب بعضاً ممن سبق أن انكفأوا الى التربية والدعوة وحدهما. وراح يتعزز التعاون بين الجيش والبوليس السوهارتيين والناشطين الاسلاميين ممن سجلت التسعينات اضطراداً لحضورهم في الشارع. وفيما عم الكلام عن «مؤامرة يهودية - مسيحية»، تلاحقت تظاهرات التأييد لمسلمين جعلوا يُكتشفون بلداً بلداً يوماً بيوم، من فلسطين الى افغانستان، ومن كشمير والشيشان الى البوسنة والجزائر. وانتشرت، كذلك، أعمال العنف مستهدفةً رموز الحداثة والكوزموبوليتية والعولمة، كما انبعث الربط القديم بين الشيوعية والرأسمالية «اليهوديتين». ولم يغب عن اللوحة عداء متنامٍ للأقلية الصينية المتمكّنة في دوائر البيزنس، فضُمّ الصينيون الى اليهود والمسيحيين في نشاطهم «لنشر الجنس الحر والمثلية والأرواحية والسوق الحرة». وكان قد انقلب سوهارتو نفسه على حلفائه الصينيين، يشجعه بعض منافسيهم من حاشيته وقد رأوا ان أزمة 1997 تضيّق عليهم سوقاً كانت، في عهد الفورة، تتسع للجميع. وجدير بالذكر ان الأزمة المذكورة ترافقت مع اغتصاب عديد النساء الصينيات ومقتل مئات الصينيين الذين قضى الكثيرون منهم حرقاً. وقد هاجر، بالمناسبة، معظم أهل البيزنس منهم، ومعهم رساميلهم، فرحّبت البيئة الاسلامية ولو عنى ذلك افلاس الاقتصاد الوطني.

ولئن وجد الجيش في أدبيات الكراهية الرائجة ما يغري بتعبئة الجماهير وتحويل أنظارها، بقي ان ذلك لم يحل دون سقوط سوهارتو الذي حافظت البيئة الاسلامية، حتى النهاية، على ولائها له. فعندما سُمّي حبيبي خلفاً عُدّ ذلك انتصاراً فتدفقت الميليشيات المتزمتة، وقد سلحها الجيش، الى الشوارع ترهب الليبراليين واليسار.

وبحلول عبدالرحمن وحيد في الرئاسة، وهو من هو في الإسلام، بدا تسامح الرئيس الجديد سبباً لضعف يحول دون سيطرته على الجيش والشارع. وبالفعل استولت الميليشيات المسعورة على المشهد العام خلال عهده الممتد عشرين شهراً.

وفي النشاط الشارعي بدأت تظهر الفرق الأكثر راديكالية وعلنية، كـ «مجلس المجاهدين» الذي ضم فروعاً من «دار الاسلام» عاشت تحت الأرض، و»عسكر الجهاد»، اكثر أجنحة الحركة الطلابية الاسلامية بيوريتانية، والذي برز خصوصاً عام 2000 من خلال حرب مولوكاس، حيث شُهّر بالحكومة لـ»عدم دفاعها عن المسلمين». والطرفان المذكوران موصولان، من خلال مشاركتهما في أفغانستان، بشبكات إسلامية عابرة للحدود، فيما المرجع الأبرز لـ «عسكر الجهاد» واعظ عربي الأصل هو جعفر عمر طالب الذي حملته أشد تأويلات الإسلام حَرفية الى الساحة الأفغانية قبل انشائه مخيمات تدريب في مولوكاس. والحال ان التنظيم هذا لا يبدي اهتماماً بالدين كمصدر لنظام اقتصادي - اجتماعي بديل، إذ ينصبّ تركيزه على أولوية العمل بالشرعية ورفض الديموقراطية ومعاداة ميغاواتي سوكارنو، الرئيسة التي حلت محل وحيد، لأنها... إمرأة.

ولئن تعامل «ديوان الدعوة» مع «عسكر الجهاد» بوصفه الطرف الموثوق لوضع العمل بالشريعة موضع التنفيذ في الشارع، بدا «مجلس المجاهدين» أقرب الى واجهة لمجموعات موصولة بـ «الدار»، مرجعها باعشير. وبالفعل، اختاره المؤتمر الأول المعقود في 2000، والذي دعا الى خلافة جديدة، «أميراً للمجاهدين»، كما بشّر بخلافة جديدة.

وثمة مجموعة ثالثة ولدت في مناخ أزمة 1997، هي الثمرة المباشرة للعمل مع الشرطة السوهارتية. بيد أنها، وقائدها حبيب رزق شهاب ذو الأصل اليمني الحضري، ليست معنية بالمعرفة والمساجلات الإسلامية. فهي هددت الأميركان في أندونيسيا ثأراً لأفغانستان وقامت بأعمال مشابهة. لكنها، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أوقفت نشاطاتها، فذُكر ان السبب عائد الى إذعانها لقرار صانعتها، السلطة، بعد مجزرة بالي.

وتكشّفت ميغاواتي عن ضعف بزّت فيه ضعف وحيد. فحزبها يتهمه الاسلاميون بأنه «محكوم» بغير المسلمين. وهذا معطوف على كونها من الجنس «الملعون»، وعلى بنوّتها لأحمد سوكارنو. لهذا حاولت، هي الأخرى، التعويض بتحالفات مع اسلاميين أقل اعتدالاً من وحيد جيء بهم من «نهضة العلماء»، أبرزهم حمزة هاز.

وقد انتُخب جنرال لرئاسة الجمهورية، فبدا مجدداً ان اندونيسيا لا تزال مُحيّرة بين عسكر يفرض النظام ولو، هذه المرة، في ظل برلمان، وبين أصولية مسلحة تصحبها الفوضى. وهي عيّنة على تاريخ عريض يراوح بين القطبين هذين فيتبدد ولا يصير تاريخاً.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)