اسوأ الحكام في العالم نوعان النخبويون والشعبويون. فالنخبويون يعتبرون انفسهم اقرب الى الالهة والى المخلصين او المنقذين منهم الى الحكام العاديين ويعتبرون انفسهم ايضا فوق مستوى شعوبهم سواء من حيث الفهم والادراك والمعرفة والمقدرة او من حيث المحافظة على مصالح اوطانهم وشعوبها علما ان بعضهم قد يكون كذلك اساسا وان بعضهم الآخر قد يكون بعيدا عن النخبة بعد الارض عن السماء لكنه صنف نفسه كذلك وتصرف على هذا الاساس منطلقا سواء من حزب او من تيار او مؤسسة عسكرية او توجه ديني. وسوء الحكام النخبويين ناجم عن اقتناعهم بان شعوبهم لا تفهم ولا تعرف مصالحها ومصالح اوطانها ولا تعي ما هو الافضل لها وتاليا بانها في حاجة مستمرة الى "كفاياتهم". وهو ناجم ايضا عن امتناع هؤلاء الحكام عمدا عن تدريب شعوبهم الى المعرفة وعلى اتخاذ القرارات الكبيرة والصغيرة وتاليا محاسبة اولياء امرها عندما يخطئون. وهو ناجم ثالثا عن سهولة تحول الحكام النخبويين الى الديكتاتورية او الشمولية ومعهما الى الفساد العشوائي او المنظم. وهو ناجم رابعا واخيرا عن حقيقة مهمة اثبتتها اكثر من تجربة في العالم ماضيا وحاضرا هي ان الحكام النخبويين غالباً ما قادوا اوطانهم وشعوبهم الى النكبات والكوارث والمصائب.

اما الحكام الشعبويون فهم الذين يعرفون اللعب او العزف على غرائز شعوبهم وعواطفها وانتماءاتها المتنوعة من دينية ومذهبية وسياسية ومصلحية خاصة ويوظفون هذه المعرفة للوصول الى السلطة والبقاء فيها غير عابئين بمصالح اوطانهم وشعوبهم. ونادرا ما افلح هؤلاء في الاستمرار لان شعبويتهم لم تمنع شعوبهم في مراحل حاسمة من تاريخها من ادراك المصير الاسود الذي يقودونها اليه او لأن تطور الاوضاع الاقليمية والدولية جعل اطاحتهم سهلة نظرا الى ما تسببوا به من اضرار لاوطانهم ومجتمعاتهم ولمنطقتهم وربما للعالم.

هل من امثلة حسية على النوعين المذكورين في منطقتنا العربية والاسلامية؟

الامثلة كثيرة. فالمنطقة مليئة بحكام ينتمون الى كل منهما. لكننا لن نتوقف الا عند مثلين لان الحاكم، والمقصود هنا النظام وليس الفرد او الشخص، سواء كان شعبويا او نخبويا وضع نفسه وبلاده وشعبه في مأزق كبير بل في ورطة كبيرة لا يعرف احد طريقة الخروج منها، اذا كان خروج كهذا ممكنا، ولا يستطيع احد تقدير الحجم الفعلي لأضرارها علما انه سيكون كبيرا جدا. المثل الاول هو سوريا المحكومة منذ عقود بنظام "نخبوي" وطنيا وقوميا اعتبر دائما قائده او قادته انهم ادرى بمصالح شعبهم واقدر على وضع السياسات التي تحميها وتحديد القضايا التي يجب ان يضحي في سبيلها وتحديد الطرق التي يمكن بواسطتها النجاح في معالجة هذه القضايا. وهو ايضا سوريا الشعب البعيد عن ممارسة دوره السياسي والوطني والقومي. وسوريا النخبوية هذه تعيش اليوم مأزقا صعبا اذ عليها ان تشرب من النهر نفسه الذي روت الآخرين من مياهه. فعليها وحدها ان تحدد الخيارات المصيرية التي لن تؤثر على نظامها فقط بل معه ايضا على شعبها وعلى مصالحه المتنوعة. وهذه مهمة صعبة في ظل ابتعاد الشعب او ابعاده لا فرق عن المحاسبة والمساءلة بل عن التعاطي في الشأن العام على مدى عقود. كما ان العودة الى الشعب، اي العودة الحرة والحقيقية، لا تبدو سهلة لاعتبارات كثيرة معروفة. اما المثل الثاني فهو الجمهورية الاسلامية الايرانية وخصوصا بعدما تبوأ سدة الرئاسة فيها "قيادي" شعبوي لا يبدو انه استوعب ليس ما يجري في المنطقة والعالم فحسب بل ايضا ما جرى داخل بلاده وفي فكر النظام الاسلامي الذي "ترأسه" بل داخله منذ قيامه في اعقاب الثورة الشعبية – الدينية الكبيرة التي اطلقها الامام الراحل آية الله الخميني عام 1979. ثم انه لم يستوعب المعركة الشرسة التي تخوضها بلاده بل نظامه مع المجتمع الدولي حول الموضوع النووي والتي تقتضي منه العمل الجاد لربحها او على الاقل لمنع اخصامها من فرض "العزلة" عليها وليس لتسهيل فرضها.

طبعا ظهرت شعبوية الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد على المستوى الداخلي اثناء حملته الانتخابية قبل اشهر وتقبلها الكثيرون في حينه من داخل ايران وخارجها لربطهم اياها بضرورات هذه المعركة. لكن احدا من هؤلاء لم يكن يتوقع ان تبلغ هذه الشعبوية حد تعريض بلاده لهجمات المجتمع الدولي في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها. فهو بدعوته الى محو اسرائيل من الخريطة، ومن لا يعرف تأثيرها الاميركي الكبير وتعاطف المجتمع الدولي في معظمه مع فكرة بقاء كيانها ودولتها، احرج اولا النظام الذي يمثله وينتمي اليه، علما ان هذا النظام لم يصل الى دعوة صريحة من هذا النوع في السابق كما انه بعد انطلاق عملية السلام عام 1991 لم يعترض على انخراط حليفه السوري فيها ولا على توصله الى تسوية مع اسرائيل من خلالها وان احتفظ بحقه في التمسك برفض الاعتراف بهذه الدولة المغتصبة. وهو احرج ثانيا العالم العربي والاسلامي اللذين يتشارك واياهما على الاقل من الناحية المبدئية في عناوين الصراع العربي – الاسرائيلي. فهذا العالم بزعامة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تخلى بعد هزيمة 1967 امام اسرائيل عن شعار "رمي اسرائيل في البحر" ووافق على القرار الدولي 242 ولاحقا على القرار الاخر 338 اللذين يعترفان في شكل او في آخر باسرائيل. وهذا العالم انخرط في مفاوضات سلام مع اسرائيل، فرديا ثم جماعيا بعضها اثمر وبعضها الاخر لا يزال يحاول انضاج ثمارها. ومجرد انخراط كهذا يعني قبول بقاء الدولة العدوة. وهو احرج نفسه ثالثا واخيرا اذ لا بد ان يرى نفسه متراجعا في شكل او في اخر لان القيادة الفعلية في بلاده ليست له بل هي للمرشد الاعلى اية الله علي خامنئي الذي رغم تشدده الداخلي والخارجي يتحلى مع فريقه الذي من ضمنه "البراغماتي" الاكبر حجة الاسلام هاشمي رفسنجاني بشيء من الواقعية وان المتشددة وبشيء من الحكمة والرغبة في المحافظة على النظام لا تشريع ابوابه امام الرياح المعادية.

طبعا لا يعكس الموقف السلبي من الحكام النخبويين والشعبويين في هذا "الموقف" دعوة الى تغييرات جذرية. فذلك مستحيل لاسباب متنوعة. بل يعكس دعوة اليهم وخصوصا في سوريا وايران الى استنباط الوسائل التي تعيد بعضهم الى شعوبه وتعيدها اليه والتي تمكن بعضهم الاخر من عقلنة شعوبه والتي تساعد الجميع عندها على تجنب الكوارث والمآسي، كما يعكس دعوة الى اللبنانيين على تناقضاتهم في هذه المرحلة المصيرية من تاريخهم الى الوعي كي لا ينجروا في غمرة الاستحقاقات المتنوعة الداخلية والاقليمية والدولية الى "الشعبوية" المدمرة والى النخبوية المصطنعة المدمرة بدورها.

مصادر
النهار (لبنان)