يمكننا التقلب على انتقاد الأمم المتحدة، أو حالة الاستباحة التي يمارسها الجميع بحقنا، لكن الوطن لا يستطيع الحياة على "النحيب" الذي يمارسه الدراويش في كل أمسية رمضانية، طالبين الغيث في قيظ الصيف، أو مناشدين زرقة السماء إعادة معجزة "عام الفيل".

وإذا كانت الصور القاتمة التي نقتبسها من الإعلام وهوس الندوات حول سورية وضعتنا ضمن مساحة الهدف "النهائي"، فإن "الخيال" الاجتماعي يتجه أكثر نحو الهروب من الشكل الحقيقي لما يحدث، وإيجاد مخارج من "مخيال" اجتماعي تحيطه صور المعجزات أو حتى اعتبارات خارجة عن مألوف التوازن السياسي المرسوم اليوم داخل الأمم المتحدة أو خارجها. فالتاريخ الذي يستوطن عقولنا هو في النهاية الانتقاء الأمثل لسرد قصصي طويل غاب عنه "الصراع" لتبقى الأسطورة الحاضرة في شكل "المعتصم" أحيانا أو في هيبة "هارون الرشيد".

الوطن في دائرة الخطر حتى ولو توقفت الضغوط الأمريكية لأننا مازلنا نبحث في عالم وردي عن طاقتنا الضائعة، ونريد رسم وهم "الخطابات" النارية لدراويش زماننا "حقائق" قادرة على إزاحة الزمن للوراء عندما كان "العدو أمامنا" و "البحر من ورائنا" وليس أمامنا سوى القتال .... نعم ليس أمامنا سوى القتال، لكنه قتال مع ذاتنا قبل أن يكون مع مروحيات "الأباتشي" وقاذفات "بي 52" ... وهو مواجهة مع الصورة النمطية التي نرسمها لأنفسنا، قبل مع الرؤية المسبقة للمحافظون الجدد تجاهنا.

التصريحات الأمريكية الهازئة اليوم تعكس التراث الأمريكي الذي يرى أن "الهنود الحمر" تجربة تتكرر دوما .. وجون بولتون القادر على التحرر من احترام الآخرين هو في النهاية صورة لانتصار الصورة النمطية لنا .. الثابتة ... أو المستقرة ... العاجزة عن التحرر من ثقل التاريخ ... فنحن المسؤولون أولا وأخيرا عن التعامل مع التاريخ وكأنه حدث مستقبلي.

الغموض الذي يبتلعنا اليوم لا علاقة له بتقرير ميلس أو بالشكوك الأمريكية تجاه سورية، بل هو بسبب المساحات الفارغة التي نتركها مع المستقبل بينما نغرق بشكل تدريجي في اللون القادم لوهم الماضي. واليوم عندما ننظر إلى "الخطر" فربما نحتاج إلى اليقين بأننا نملك عصبية المجتمع للدفاع عن ذاته ... للمقاومة التي تخرجه من الوهم والغموض، وترمي أمامه الشك بالحقائق التي شكلت صورتنا النمطية ... هذا اليقين الموجود رغم الخطر يشكل رهاننا، ويملك إرثا "لا تاريخيا" ... لأننا في التاريخ لا نملك إلا يقينا واحدا هو بقاؤنا واستمرارنا رغم كل المخاطر.