ليس اختراعاً وما هو بكشف معرفي إذا قلنا إن الهاجس الأمريكي المطلق في المنطقة العربية هو السيطرة على النفط بأي ثمن كان وبأية وسيلة، سواء عبر وكلاء أو عبر الثكنة والترسانة إسرائيل. دون اوهام او انفصام رؤية، استطاعت امريكا خلال قرن من التخطيط والتفكيك تحقيق هيمنة حصرية على النفط العربي، تنقيباً وتكريراً ونقلاً وتسويقاً وتسعيراً؛ وباتت تحدد من يُطعم ومن يُحرم ومن يُعز ومن يُذل لأهداف سياسية واقتصادية ودينية، ما ساهم بتربعها على مقدرات العالم والتحكم بمصيره.

بدأ الزمن يتغيّر واضطرب حال الوكلاء وحال الثكنة الترسانة إسرائيل، بخصوص الوكلاء، يمكن اعتبار نظام صدام نموذجاً. فبعد فشله في إعادة البحر النفطي الإيراني إلى الأحضان الأمريكية، ومحاولته فتح دكان نفطية لحسابه عبر وضع اليد على الكويت. وبعد استحالة هضم أرض فلسطين من قبل الثكنة الترسانة اسرائيل، لم يعد أمام واشنطن إلا أن تغيّر استراتيجيتها وتقوم هي ذاتها بالعمل الوسخ فكان لا بد من الغزو العسكري والاحتلال المباشر.

كان النفط حاضراً في كل خطوة وموقف وتصريح في كل ما جرى..حينا بشكل علني؛ وأحياناً أكثر بالشكل المبطن الذي لا يجد المرء صعوبة في الاستدلال عليه لو بحث وتمعن قليلاً.

فمن مقدمات سقوط الشاه إلى الأزمة الأمريكية الحالية مع سورية، مروراً ب-(اتفاقية الجزائر بين صدام وإيران)، (خوض الحرب على البوابة الشرقية)، (استهلاك مقدرات الخليج النفطية في تلك الحرب)، (غزو اسرائيل للبنان)، (خلق اضطرابات في سورية)، (التحرش بليبيا والحصار عليها)، (تغذية العراق وايران بالاسلحة)، (احتلال صدام للكويت)، (إخراج صدام من الكويت)، (اتفاقات أوسلو)، (حصار العراق)، (النفط مقابل الغذاء)، (قصف إدارة كلنتون للعراق المقسم إلى ثلاث مناطق)، (انهيار المعسكر الشرقي)، (11 أيلول)، (قصف السودان)، (الحرب على الإرهاب)، (احتلال أفغانستان)، (هتك عرض الأمم المتحدة) وصولاً إلى (السيطرة على العراق) .... كل ذلك، والمحور الأساس للاستراتيجية الأمريكية في أعماقها وبواطنها لا شيء إلا السيطرة المطلقة على النفط عبر خط سير يواكب حمل المسألة الإسرائيلية /التي تحولت إلى عبء على الإدارة الأمريكية/ بالمعيّة.

ومهما حاول أنصار إسرائيل- من صهاينة ومحافظين جدد في الإدارة الأمريكية الحالية- حمل المصالح الإسرائيلية بالمعيّة؛ إلا أن حمل مصلحة أمريكا الأساس عبر الاحتلال بدأ يثقل ويتخبط وقد يتهاوى ويضيّع الهدف الأساس (النفط) والمحمول بالمعية (إسرائيل).

فما الذي يجري لهذا الاحتلال و قواته الذي تحاول أمريكا والبعض تسميته (قوات التحالف)؟

لنبدأ بوضع "قوات التحالف" البريطانية الحليف الأساس للقوات الأمريكية وشريكتها في السراء والضراء من أجل المحافظة على بعض أمجاد الإمبراطورية الخبيرة بشؤون العراق. يقول سايمون جنكنز من صحيفة الغارديان:

"خلّصنا العراق من ديكتاتوره وقدمنا له دستوراً؛ ولكن لم نحقق السلام؛ وعلينا أن نخرج وألا نبقى كقوة احتلال، لأن وجودونا أخذ يفاقم أزمة العراق ويشرذمه ويعرضه للذبح المنظم؛ لقد آن الأوان أن نقول للأمريكيين إن كلينا نرتكب الأخطاء في العراق"

ويتابع ضمن برنامج "بانوراما" الذي اعدته مؤسسة الBBC.

" إذا غادرت قوات الاحتلال سيخف الارهاب ويعود بعض الأمان وتزدهر إعادة البناء". "بير بارك" مسؤول إعادة البناء مع قوات التحالف، يقول في البرنامج ذاته

" بغياب قوات الاحتلال لن يكون هناك مبرر عند الارهابيين لقتل من يتعاون مع الاحتلال أو لنسف المرافق النفطية والمؤسسات الاقتصادية الأخرى؛ التي يرى الارهابيون أن الاحتلال أتى من أجلها. وخاصةً أن العائدات النفطية العراقية يستهلكها الاحتلال، إذا كنا حريصين على الديمقراطية فان 150 الف جنديا لن يجلبوها للعراق"

وتقول الدة أحد الجنود البريطانيين الذين قضوا في العراق في البرمامج ذاته " علينا أن نخرج وبسرعة كي لا نتسبب بمزيد من الضحايا البريطانيين والعراقيين أيضاً.

لقد قال لي بلير إننا سنخرج بعد انتخابات حكومية ديمقراطية. وهذا يُقال إنه سيحدث في كانون أول؛ ليلتزم بلير بما قاله لي". في البرنامج ذاته ايضا يوجه جنكينز كلامه لسفير العراق في بريطانيا الدكتور الشيخلي ويقول " إن وجودنا في بلدكم يكلفنا أرواحاً ومالاً، ولم ننجز ما وعدناكم به؛ قوات الشرطة بيد الارهابيين الذين يتحكمون بمصير الحياة في العراق وجيشكم يحتاج إلى سنوات ليكتمل؛ وبدأ البريطانيون يطرحون الأسئلة الصعبة: " هذه بلدكم، فمتى تديرون أمورها؟!"

وفي ختام البرنامج يقول جنكنز: " ألا تلاحظون أن الاحتلال هو الذي يولد الإرهاب؟ يريد العراقيون تمزيق هؤلاء الإرهابيين ولكن ما يقف عثرة في وجههم هو تواجد قوات الاحتلال، نحن نسير باتجاه الهاوية؛ الوضع يسوء يوماً بعد يوم نحن لا نكسب الحرب وما كسبنا السلام رغم أننا لم نُهزم بعد، لكننا بطريقنا إلى الهزيمة. لقد أعطينا العراقيين بعض المنجزات، ولكن علينا أن نعيد إليهم بلدهم، البلد ليس لنا، علينا المغادرة."

الصحف البريطانية ومراكز بحوث مختلفة تناولت الوضع المزري للقوات البريطانية في العراق. هؤلاء الجنود - كما تقول التقارير يعيشون هلعا واضطرابات نفسية تستلزم تواجد المعالجين والاطباء النفسيين في قطعاتهم العسكرية على الدوام.

"الصنداي تايمز" قالت ان الجندي البريطاني بين نارين، نار اصابته برصاصة عراقية أو اي انفجار في اي لحظة، ونار المحاكمة الدولية، التي قد يسحب اليها بسبب ممارسات الاحتلال.

والآن ما هو حال قوات التحالف الأمريكية، وهل هي بقوة الموساد الذي يتغلغل في العراق /وخاصة شماله/ والذي ينمو كالقراد؟! لا ندري ما دوره ومتى يسمح لـ"قوات التحالف" أن تغادر العراق؟ وإذا كانت إسرائيل متضايقة من قدوم أمريكا بجنودها إلى المنطقة مباشرة وينتابها إحساس بأن دور/شرطي المنطقة/ يُسحب منها، فهل تكتفي بما حصل للعراق من دمار وتفتيت بما يسمح بجلاء "قوات التحالف"؟!

معروف أن الحديث عن وجود الموساد في العراق ليس تخيّلاً أو جزءاً من نظرية المؤامرة؛ لقد صرّح بذلك مسؤولون عراقيون عبر وسائل الإعلام.

لنعد إلى "قوات التحالف الأمريكية" ونتفحص حالها آخذين بعين الاعتبار عمليات التدمير المنهجي التي تقوم بها لمجرد مرور خيال أمامها أو سماعها عن احتمال تواجد مقاومين في مكان ما حيث تسيّر مجنزراتها وطائراتها لتحول أي منطقة تصلها أو تطالها إلى أرض يباب.

رغم تبشير السيد رامسفيلد بالجندي الأمريكي المدجج بآخر التقانات المصمم على ألا يُقهر، إلا أن الإقبال الأمريكي على التجند بجيش رامسفيلد يصل أدنى مستوياته، وحوالي نصف المنتسبين يتركون الخدمة خلال ستة أشهر فاستراتيجية التجنيد تشهد انهياراً غير مسبوق؛ ويعود ذلك لأسباب كثيرة من بينها:

-الخسائر البشرية والمادية في الحرب على العراق. فعدد قتلى القوات الأمريكية (المعلن عنه رسمياً أمريكياً) تجاوز الألفي جندي؛ فما بالك بما لم يُعلن عنه وخاصةً من المرتزقة الذين وُعدوا بجنسيات أمريكية!!

-الخسائر النفسية التي تجتاح جنود الاحتلال الذين أقنعهم رامسفيلد بان مهمتهم أقرب إلى رحلة صيد واستجمام في العراق، وإذا بها الجحيم ذاته. فأمام هؤلاء الجنود إما السحق الكلي لما هو موجود أو يمر أمام أعينهم أو على راداراتهم وإما الموت.

وفي الحالة الأولى يصابون بصدمات نفسية تحدّث عنها تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية ذاتها.

- إحساس الجنود بعدم عدالة ما يفعلون، ويقينهم من كذب من دفع بهم إلى ذلك الجحيم؛ فمسلسلات الخداع تتكشف تباعاً؛ وأهمها اعترافات "كولن باول" بأنه لم يقل الحقيقة – وهو رجل يحترمه الجنود- فما بالك بالمعروف عنهم بأنهم عكس ذلك؟!

- الفرار من الخدمة، وتجاوز عدد هؤلاء الستة آلاف جندي.

- إدمان المخدرات، فقدان الذاكرة، فقدان التركيز، الدعارة، الشذوذ أو الانتحار. تحدث تقرير عن مركز دراسات استراتيجي في واشنطن أن عشرة آلاف من هؤلاء الجنود عادوا إلى أمريكا وهم قيد المعالجة.

باختصار أضحى بحث أمريكا عن مخرج من هذا المستنقع العراقي هاجساً يطارد المسؤولين الأمريكيين رغم مكابراتهم وادعاءاتهم بإنجازات العراق. والمخرج الوحيد الذي يتم تداوله بشكل واسع في أمريكا وغيرها يتمثل بانسحاب تلك القوات.

وهناك مناقشات مفتوحة في الكونغرس الأمريكي تتناول جذر خطوة غزو العراق ومبرراتها وما يحدث. إنها تضع كل أوراق تلك الحرب (الظاهر منها والخفي) على الطاولة؛ فارتفاع التكلفة المادية والبشرية لتلك الحرب دون ظهور معالم لنهايتها واهتزاز هيبة أمريكا وقراراتها العالمية، إضافة إلى المقاومة العراقية غير القابلة للتطويق أو المعالجة أو الإنهاء، إلى تزايد الشكوك بان الأداء العسكري الأمريكي في العراق أصبح بلا جدوى.. كل ذلك ينذر بمصير لتلك القوات لا يصل حتى الآن إلى المصير في فيتنام؛ بل على الأقل إلى مصير القوات السوفيتية في أفغانستان.