في خطوة مفاجئة، هاجم أكثر من 150 نائباً ايرانياً الرئيس محمود أحمدي نجاد، واتهموه بتجاهل الأزمة الاقتصادية الداخلية، والانصراف عن المسائل الحيوية بإطلاق شعارات الاستفزاز.

ووقّع هؤلاء النواب عريضة انتقدوا فيها جولته الأخيرة على بلدان اميركا اللاتينية مذكرينه، بأزمات البطالة والتضخم وارتفاع الأسعار بنسبة خمسين في المئة.

ولوحظ ان الموقعين على العريضة ينتمون الى جبهة آية الله علي خامنئي، الأمر الذي اعتبرته الصحافة مؤشراً على غضب المرشد الأعلى واعتراضه على أداء الرئيس في الأمم المتحدة. وتردد في طهران ان خامنئي أوصى نجاد بألا يثير موضوع البرنامج النووي، خوفاً من استفزاز الولايات المتحدة. ويبدو انه تجاهل هذه التوصية، وألقى خطاباً في الجمعية العمومية تحدث فيه عن حق ايران في امتلاك التقنية النووية المدنية.

واستغلت الادارة الاميركية هذا الكلام لتكثف الضغوط الاقتصادية على ايران، مستفيدة من تعاون أوروبي وآسيوي واسع في هذا المجال، بحيث تعزل النظام وتجبره على اعادة النظر في برنامجه النووي ودوره الاقليمي. وواضح من الزيارة التي قام بها لطهران رئيس مجلس الامن القومي الروسي ايغور ايفانوف، ان موسكو مصممة على الوفاء بالتزاماتها في استكمال بناء محطة "بوشهر" النووية. وسلم ايفانوف هذا الاسبوع المرشد علي خامنئي رسالة من الرئيس فلاديمير بوتين يؤكد فيها تسريع برنامج التعاون في الحقل النووي. اضافة الى هذه الصفقة، فإن روسيا سلمت ايران انظمة صواريخ مضادة للطائرات من طراز "تور – ام أ" وذلك رداً على تهديدات اميركا واسرائيل بضرب المفاعلات النووية الايرانية.

في هذا الوقت اعلنت ادارة بوش عن تطوير نظام الدفاع الصاروخي الوطني المعروف "أم ان دي"، وهو نظام جديد يحمي اجواء الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية من هجمات صاروخية قد تقوم بها ايران او كوريا الشمالية.

الرئيس بوتين اعترض بشدة على بناء الدرع الصاروخي الاميركي، ورأى في بنائه انتهاكا سافرا لمعاهدة 1972 المبرمة بين واشنطن وموسكو التي تحظر سباق التسلح بين الدولتين. كذلك رأى في هذا النظام عملا عدائياً يراد من ورائه محاصرة روسيا وعزلها.

كذلك اعترضت الصين على هذا المشروع لاعتقادها بأن الاستراتيجية الاميركية الجديدة تهدف الى محاصرتها وتهديدها بواسطة هذه المظلة العسكرية، اضافة الى الحلف السياسي الذي تشكله مع اليابان والهند وكوريا الجنوبية واندونيسيا. لذلك تعمدت اسقاط القمر الاصطناعي الاميركي بهدف إفهام إدارة بوش انها لن تسمح باقامة مظلة الردع فوق اراضيها.
من هذه الوقائع يصدر السؤال المحير ما اذا كانت شبكات الحماية ضد الصواريخ تقيمها الولايات المتحدة من اجل أمنها أم من اجل أمن اسرائيل؟

يجمع المراقبون على القول ان الحرب ضد العراق خيضت من اجل أمن اسرائيل، وان الاستعدادات العسكرية الاخيرة تتخذ ايضا من اجل وقاية اسرائيل. هذا ما استنتجته الخبيرة تريتا بارسي عندما تساءلت عن اسباب نشر مضادات للصواريخ الباليستية في حين لا يملك المتمردون العراقيون مثل هذه الصواريخ.

وكانت بهذه التساؤلات تحاول تفسير الخطة الاميركية التي اشار اليها الرئيس جورج بوش في خطابه الاخير، والتي تقضي بنشر اجهزة "باتريوت" المضادة للصواريخ في بعض دول الخليج العربي. ويسود الاعتقاد في واشنطن ان طهران لن تكتفي بضرب المدن الاسرائيلية في حال تعرضت منشآتها للضرب، وانما ستقلد صدام حسين في ضرب دول الخليج الصديقة لأميركا.

وهذا ما يفسر تعيين الاميرال فالون على رأس أركان القوات الاميركية في اوروبا والشرق الاوسط. علما بأن فالون هو اميرال في البحرية، وان ماضيه في شؤون القوات البرية محدود جدا. وهذا يعني انه لن يكون المسؤول المباشر عن الحرب البرية الدائرة في العراق، بل عن الحرب التي ستشن ضد ايران. أي الحرب التي توجهت من أجلها حاملة طائرات ثانية، مصحوبة بخمس غواصات نووية. ومن الملاحظ ايضا ان القاعدة العسكرية التركية "انجرليك"، قد استقبلت في المدة الاخيرة عددا من طائرات (اف – 16) المهيأة لحمل رؤوس نووية من نوع (ب – 61 – 11). والمعروف ان البنتاغون عمل على تطوير مثل هذا السلاح من اجل تدمير الحديد المصفح الذي يقي المفاعلات الايرانية تحت الارض. وتعترف طهران بأنها تعلمت من تجربة العراق مع اسرائيل، لذلك وزعت المفاعلات على سبعين موقعاً، وعمقت وجودها تحت الارض. وهذا يعني ان الضربات قد لا تقوض كل البرنامج كما حصل مع العراق عام 1981، وانما ستؤخر بناء القنبلة بضع سنوات.

تقول الوزيرة كوندوليزا رايس ان قرار ضرب ايران لم يتخذ في انتظار ما ستسفر عنه الوسائل الديبلوماسية. وهي تدعي ان الاستعدادات العسكرية حول ايران ليست أكثر من ضغوط معنوية ترمي الى منع نظام الملالي من دعم الميليشيات المسلحة في العراق ولبنان وغزة. كما ترمي من الزاوية السياسية، الى دفع طهران لاظهار المزيد من المرونة في الملف النووي. وفي قصر الاليزيه، يخبر الرئيس جاك شيراك ضيوفه الرسميين ان الرئيس بوش أكد له ان معالجة الملف النووي الايراني لا تقتضي اعتماد الاسلوب العسكري قبل استنفاد كل الاساليب الديبلوماسية. ولكن هذا الكلام لم يقنع عدداً كبيراً من مسؤولي البيت الابيض الذين يعرفون ان بوش عقد العزم على التصدي لتهديد ايران وحده، أو بمساعدة اسرائيل.

يرى عدد كبير من رجال الكونغرس، انه من الضروري وقف كل خطة عسكرية تؤدي الى كارثة. واقترح بعضهم سن قانون يحظر على الرئيس اتخاذ قرار بشن حرب ضد ايران أو سواها من دون موافقة غالبية اعضاء مجلس الشيوخ. وبما ان الاستعدادات العسكرية تنتهي آخر الشهر الجاري، فقد طالب بعض الشيوخ بإبرام قانون تقييد قرارات الرئيس قبل آخر الشهر، خصوصاً ان المهلة التي نص عليها القرار 1737 تنتهي آخر الشهر ايضاً. وخلال هذا الشهر ايضاً تسلم روسيا وقود مفاعل "بوشهر" النووي، بحيث تباشر ايران عملية تخصيب الاورانيوم بمقادير عسكرية.

الرئيس بوتين يدعو الى التوصل الى حل ديبلوماسي، والى عدم استعجال القرارات المتهورة. وهو يؤيد مبادرة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، القاضية بإعلان هدنة تؤدي الى تعليق النشاط النووي الايراني وعقوبات الأمم المتحدة. وتؤيد غالبية الدول الاوروبية هذا المخرج لأن خطب الرئيس نجاد، في تصورها، لا تعبر عن ارادة جماعية للشعب الايراني. وتذكّر الصحف الاوروبية بأن الجمهورية الاسلامية منذ تأسيسها عام 1979، لم تبادر الى اعلان أي حرب. ففي 1980 فرض عليها صدام حسين الحرب. وعلى رغم تحرشات "طالبان" بايران، فإن الامور بينهما ظلت خاضعة للوساطات. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم تستغل طهران الفرصة لتوسيع حدودها. أما بالنسبة لأزمة الجزر مع دولة الامارات العربية، فقد آثرت ايران حل هذه المشكلة بالطرق الديبلوماسية. وربما كانت عبارة آية الله الخميني وقبوله بوقف الحرب (هذا قرار أبشع من تجرع السم) أفضل دليل على براغماتية الايرانيين وقبولهم بالامر الواقع.

العقوبات التي فرضها مجلس الامن على طهران حملها على التخلي عن تخصيب الاورانيوم، فجرت نقاشاً سياسياً واسعاً تناقلته كل الصحف. كما تسبب خطاب الرئيس نجاد في الجمعية العمومية، بإثارة حملة ضده ترجمت في عريضة احتجاج وقعها 150 نائباً من اصل 290. وعندما نعرف ان نجاد حصل على أصوات 17 مليون ناخب، واسقط منافسه الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، ندرك ان الحملة لم تصدر من فراغ. وهي حملة قاسية تناولت خطته الداخلية وسياسته الخارجية. وانتقدته احدى الافتتاحيات لأنه أهمل الدول العربية التي ينشد مؤازرتها، وانتقل الى اميركا اللاتينية ليحيي انصار سيمون بوليفار وفيديل كاسترو. كما هاجمته جريدة أخرى، معتبرة أنه مسؤول عن انتشار الفساد الاجتماعي، وعن تراجع اسعار النفط وعن انخفاض اعمار سكان طهران بسبب تلوث البيئة. ومن المؤكد ان كل هذه الذنوب لم تظهر على الرأي العام الا بعد زوال حصانة الملالي عنه. وهذا ما يفسر تكليف الرئيس السابق محمد خاتمي تمثيل ايران في مؤتمر دافوس. وهي المرة الاولى التي تقبل السلطة الايرانية بأن يمثلها شخص من خارج الادارة الحاكمة. وقد ألقى كلمة ناقض فيها كل ما ذكره نجاد عن المحرقة (الهولوكست).

على صعيد الاستراتيجية الايرانية، شهدت طهران سلسلة لقاءات لأقطاب التيار الاصلاحي والمعتدل ممثلة بالرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ورئيس البرلمان السابق مهدي كروبي. ومن المتوقع ان تصدر عن اجتماعات هذا الثلاثي ورقة تصور لحل الازمة النووية والوضع في الشرق الاوسط.

وفي ضوء ما ستسفر عنه هذه الاجتماعات، يمكن ان تشهد الساحتان اللبنانية والفلسطينية فترة من الأمن والتهدئة، خصوصاً بعدما أدرك ملالي ايران ان المشاركة في مستقبل المنطقة لن تتحقق إذا كانت ضد ارادة شعوبها.

مصادر
النهار (لبنان)