أي هم وغم يمسكان بخناقي الرئيس بوش وحليفه البريطاني توني بلير، ويثقلان على قلبيهما وضميريهما! فهما لا يستحقان المناصب التي تبوآها، دع عنك عدم استحقاقهما لأن يناما قريري العين. وإن كانت ثمة عدالة في عالمنا هذا، فما أحق الرجلين بأن يمثلا أمام المحاكم بسبب الجرائم والآثام التي ارتكباها. ذلك أن غزوهما الطائش غير المشروع للعراق في مارس 2003، لم يسفر عن تدمير الدولة العراقية، وإلحاق ضربة قاضية بتوازن القوى الإقليمي في المنطقة فحسب، بل لقد أشاع استمرار احتلالهما له، موجة من الهلع والفوضى، وزعزعة استقرار المنطقة بأسرها. كما أشعل استمرار الاحتلال، فتيل حرب أهلية طائفية بين المسلمين الشيعة والسُّنة، إضافة إلى تسببه في أكبر أزمة لاجئين عرفها الشرق الأوسط منذ أزمة هجرة الفلسطينيين الواسعة من ديارهم، عقب الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم عام 1948.

ويقول بعض الخبراء، إن هذه الأزمة، فاقت في حجمها ودرجة سوئها، ما هو عليه حال أزمة لاجئي مواطني إقليم دارفور السوداني، حيث لقي نحو 200 ألف مواطن مدني مصرعهم هناك، بينما أرغم نحو مليوني مواطن آخرين، على هجر قراهم وديارهم بسبب الهجمات التي تشنها عليهم مليشيات مسلحة، مدعومة من قبل الحكومة المركزية.

ومن جانبه أعلن المفوض السامي لشؤون اللاجئين في العراق، أن الحرب الدائرة هناك، قد تسببت في أكبر موجة هجرة بشرية عرفها الشرق الأوسط في تاريخه الحديث. وقد بلغ عدد المهجَّرين العراقيين حداً لا سبيل للحديث عنه إحصائياً إلا من باب التقريب. ويعتقد البعض أن قرابة مليوني عراقي غادروا ديارهم سلفاً، بينما يتوقع أن يلحق بهم مليون مهاجر آخرون خلال العام الحالي. وبجانب هذا العدد، فقد أرغم مليونا مواطن آخرون على الهجرة الداخلية، وتحولوا إلى نازحين بسبب عمليات وجرائم التطهير العرقي المرتكبة بحقهم، مع العلم بأن هذه الجرائم لا تزال أبعد ما تكون عن أن تتوقف. ولاشك أن هؤلاء بالذات، في أمسِّ الحاجة للعون الإنساني والحماية العاجلة.

أما عن العدد الفعلي لقتلى الحرب والمواجهات الطائفية الدينية العرقية المستعرة التي تلتها، فلا أحد يستطيع أن يجزم برقم قاطع، غير أن التقديرات تذهب إلى ما يتراوح بين 250 ألفاً و650 ألفاً. ومهما يكن، فإن من الواضح أن عدد القتلى الأسبوعي، لا يقل عن 1000 قتيل بأي حال. ولذلك السبب، فقد وصف "أنتونيو جوتريس"، المفوض السامي لشؤون اللاجئين، الوضع برمته على أنه يمثل "كارثة إنسانية" بحق. وهذا ما يستوجب وضع التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، من شأنها وقف المذابح وحمامات الدماء، وكبح جماح التطهير العرقي الطائفي، ووضع حد لهجرة المواطنين من ديارهم، في أولوية أجندة وهموم المجتمع الدولي. بيد أن الرئيس بوش لا يزال يواصل إنكاره لما ارتكبت يداه. فما رفضه الاعتراف بكارثية الوضع الإنساني وبأزمة اللاجئين العراقيين، سوى تأكيد منه على إنكار اعترافه بفشل سياساته في العراق، التي تمثل أزمة لاجئيه مظهراً واحداً فحسب من مظاهرها. أما بالنسبة لتوني بلير، فقد لطخ انضمامه الكارثي لحرب بوش على العراق، بصفته شريكاً أصغر وتابعاً للأخير، سمعته السياسية، إلى جانب سلبه لبريطانيا من ميزة استقلال سياساتها الخارجية عن واشنطن.
وبالعودة لأزمة اللاجئين العراقيين، فقد تعهد الاتحاد الأوروبي من جانبه بتوفير مبلغ 13 مليون دولار، مساهمة منه في التخفيف من حدة هذه الأزمة، بينما تبرعت السويد وحدها بمبلغ مليوني دولار، مقارنة ببريطانيا التي لم تقدم جنيهاً إسترلينيا واحداً حتى هذه اللحظة. ومن ناحيته يسعى "أنتونيو جوتريس" إلى جمع مبلغ 60 مليون دولار كتمويل طارئ وعاجل لتخفيف الأزمة. وكما ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" في أحد أعدادها الصادرة في مطلع الشهر الجاري، فإن ذلك المبلغ الذي يطمح المفوض السامي لشؤون اللاجئين، لجمعه للغرض المذكور آنفاً، لا يساوي سوى قيمة التكلفة المالية التي تنفقها وزارة الدفاع الأميركية على كل خمس ساعات طوال مدة احتلالها للعراق! وعلى رغم أن واشنطن قد أنفقت نحو 600 مليار دولار على حربيها الدائرتين في كل من أفغانستان والعراق حتى الآن، إلا أنها لم تلتزم إلا بمبلغ 9 ملايين دولار فحسب، تعهداً منها إزاء برنامج إنساني دولي طارئي، للتخفيف من وطأة مأساة اللاجئين العراقيين. وعلى رغم أن الحروب التي شنتها مؤخراً في البلدين، قد تسببت بمأساة ملايين البشر هناك، إلا أنها لم تسمح سوى بدخول 463 عراقياً لأراضيها منذ عام 2003، على رغم وعدها بالسماح بدخول سبعة آلاف آخرين.

على أن ذلك لا يقلل من إيمان بوش بإمكانية تحقيق نصر عسكري على المتمردين في العراق حتى الآن، وهو ما يدفعه لإرسال المزيد من القوات، على أمل مساعدتها في استعادة الأمن وتحقيق الاستقرار في العاصمة بغداد. وعلى رغم أن هذه السياسة ربما تؤتي ثمارها على المدى القريب، إلا أن القليل جداً من المراقبين والمحللين، هو من يعتقد إمكان تحقيقها نجاحاً يذكر، على المدى الاستراتيجي البعيد.

وهذا ما يدفعني إلى القول مجدداً، إنه قد حان الوقت، بل لقد تأخر كثيراً في واقع الأمر، لأن تمسك الدول الإقليمية المتضررة من الحرب العراقية، بزمام الأمور بيدها. وقد آن لكل من سوريا والأردن وإيران والدول الخليجية، أن تتجاوز خلافاتها، وأن تلح على عقد مؤتمر دولي بين الفصائل العراقية المتناحرة، في مبادرة منها لتسريع الانسحاب الأميركي من العراق. وغني عن القول إن انتشار هذا السم الزعاف الذي تنفثه الحرب الطائفية العراقية، ليس في مصلحة العراق ولا الشرق الأوسط في شيء.
يضاف إلى ذلك أن سوريا والأردن هما الضحيتان الكبريان لموجة تدفق اللاجئين العراقيين هذه، إلى حد قال فيه خبراء الأمم المتحدة، إنهما بلغتا "درجة التشبع" حرفياً. وعلى رغم صعوبة تحديد الأرقام، إلا أنه يعتقد أن كل واحدة منهما، قد استضافت ما لا يقل عن مليون لاجئ عراقي، مع تدفق المزيد منهم عبر حدودهما يومياً. وبالنتيجة فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وكذلك الإيجارات وقيمة العقارات بشكل عام في الدولتين المضيفتين، بينما انحنى ظهر قطاع الخدمات، من ثقل وطأة الضغط السكاني عليه. إلى ذلك تشير النسب إلى أن حوالى 30 في المئة من الأطفال العراقيين اللاجئين في سوريا، لا يذهبون إلى المدارس، بسبب اكتظاظ المدارس بعدد التلاميذ الذين لا مقاعد لهم سلفاً.

ولذلك فإن من واجب الدول العربية الغنية أن تمد يداً سخية للمفوض السامي لشؤون اللاجئين في كل من سوريا والأردن، بينما ينبغي لأميركا وبريطانيا، أن تستحيا مما ارتكبته يداهما الآثمتان، وأن تدفعا ثمن الدمار والبؤس الإنساني الذي خلفته مغامرتهما الطائشة هناك.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)