كيف يمكن إقناع إسرائيل بإعادة النظر في موقفها من جيرانها العرب وبالأخص من الفلسطينيين؟ ولا ريب في أن انتصار «حماس» في غزة هو إشارة جلية إلى ضرورة تغيير إسرائيل لوجهتها على وجه السرعة.

فكل الجهود التي بذلتها إسرائيل بغية كسر حكومة «حماس» المنتخبة ديموقراطياً باءت بالفشل ولم تؤدِ سياساتها في المقاطعة والحصار والتجويع والتفجير والقصف والقتل بلا محاكمة وحجب عائدات الضرائب والتدمير المنهجي للمؤسسات الفلسطينية سوى إلى صنع قنبلة موقوتة من الجوع والقنوط والتحدي للجانب الإسرائيلي، ومع ذلك لا يبدو أن إسرائيل استقت أي عبر. فبدلاً من السعي إلى السلام مع العرب وبدلاً من الإمساك بيدهم الممدودة ها هي تستمر في رفضها لكل مبادرات السلام محبذة الاتكال على القوة والمزيد منها وعلى قدرتها على التلاعب بحليفها الأميركي. فقد نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود اولمرت هذا الأسبوع في واشنطن في إجهاض مبادرة أميركية لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية -الفلسطينية، وأقنع جورج بوش الابن وهو الرئيس غير المتعمق للأسف في سياسات الشرق الأوسط بأن الزمن ليس زمن محادثات السلام لا مع الفلسطينيين ولا مع السوريين. ويعد تعيين إسرائيل لإيهود باراك رئيس الوزراء السابق والقائد العسكري الذي يضع إعادة قدرة إسرائيل الردعية على قائمة أولوياته وزيراً للدفاع نذيراً ينبئ بأن المستقبل يخبئ حروباً لا محادثات سلام.

وتفيد مصادر إسرائيلية بأن باراك لن يقر ولا حتى في السر بارتكابه بعض الأخطاء في العام 1999 - 2000 عندما فوّت كرئيس وزراء فرصة السلام مع كل من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والقائد السوري حافظ الأسد. وهذه بداية سيئة لرجل من المرجح أن يؤدي دوراً بارزاً في السياسة الإسرائيلية في الأشهر والأعوام المقبلة. أما كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية غير المحظوظة التي ظن البعض أنها تخطط لدفع المحادثات العربية - الإسرائيلية من جديد، فتفوق عليها الصقور الموالون لإسرائيل على غرار إيليوت أبرامز في مجلس الأمن القومي.

ويشيع اعتقاد في واشنطن أن مكافحة «الإرهاب» ما زالت أولى أولويات أميركا وإسرائيل وقد تلقى الرئيس محمود عباس الذي يحكم نتيجة كرم من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على قرابة ثلاث أو أربع مناطق مطوقة ومفصولة في الضفة الغربية أوامر بالانضمام إلى مقاتلة أشقائه الفلسطينيين إذا شاء لملمة بعض الفتات من على طاولة الأقوياء.

ويبدو بالنسبة إلى غالبية المراقبين المستقلين أن سياسات إسرائيل التوسعية العدائية والجائرة قد ولدت تدهوراً ثابتاً في محيطها الاستراتيجي. فهي اكتسبت بل قل صنعت أعداءً لها على جبهات عدة من «حزب الله» في لبنان و «حماس» في غزة وعدد كبير من الفلسطينيين الذين حرمتهم إسرائيل من أملاكهم وزادتهم قسوة وتطرفاً وجعلتهم يعيشون بشق الأنفس في مخيمات اللاجئين إلى سورية في الشمال وإيران غير البعيدة تماماً ومجموعات متطرفة على غرار «القاعدة» في أماكن أخرى كثيرة، ما يعكس الغضب المعتمل في نفوس العالمين العربي والإسلامي. ومن الجدير أن تدفع ميول أخرى إسرائيل إلى قرع ناقوس الخطر فالرأي الأوروبي المثقف يزداد غضبه من سلوك إسرائيل في حين يزداد العرب ثقافة وتسلحاً وغنىً يفوق ما كانوا عليه بأشواط وينتج تزايد عدد السكان الهائل في العالم العربي عشرات الآلاف بل ربما مئات الآلاف من المقاتلين للحرب غير المتكافئة التي ليست إسرائيل مستعدة لخوضها تماماً والتي تبدو مع ذلك نمط المستقبل. وإن لم تدفع هذه الميول إسرائيل فحري بها ربما أن تولي جل اهتمامها الى ميل يتجسد في انشغال حليفتها الرئيسية، أي الولايات المتحدة، بحرب لا يسعها ربحها وشنتها إلى حد كبير بسبب اعتقاد أصدقاء إسرائيل من المحافظين الجدد في واشنطن بأن سحق أميركا للعراق سيحرر إسرائيل من خوفها من الشرق ما سيتيح لها الاستمرار في الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية وتدمير المجتمع الفلسطيني من دون المخاطرة بأي رد فعل عربي جدي. ويضغط المحافظون الجدد بشدة الآن بغية شن حرب أميركية على إيران كما لو أنهم غير مدركين ضيق ذرع الجمهور الأميركي الذي طالت معاناته بجرجرة بلاده إلى حروب نائية ومكلفة نيابة عن إسرائيل.

إذاً هل تعيد إسرائيل النظر في استراتيجياتها؟ ما من إشارة على ذلك فهي تغمض عينيها عن ميزان قوى إقليمي متغير وتستمر في الاعتقاد بقدرتها على استئصال «حزب الله» في لبنان و «حماس» في غزة وهزيمة سورية وإيران أو إقناع الولايات المتحدة بالقيام بهذه المهمة نيابة عنها. وكي تتلافى محادثات السلام التي قد تتضمن التخلي عن أراض فإنها تستمر في تصوير «حماس» كـ «منظمة إرهابية» مصممة على تدمير إسرائيل، لاجئة بالتالي إلى العبارة البالية: «كيف تتفاوض مع من يريد قتلك؟» وهل «حماس»، واقعاً، منظمة إرهابية أم أنها حركة مقاومة مشروعة للاحتلال والقمع؟ لقد ألغى الأميركيون الخط الإرهابي شأنهم شأن الاتحاد الأوروبي الخجول والجبان على رغم ندم العديد من أعضائه الآن على ذلك. ولا شك في أن «حماس» شنت هجمات انتحارية على مدنيين إسرائيليين إبان الانتفاضة الثانية التي تفجرت في العام 2000 ما يؤهلها للوصم بالإرهاب لكن إسرائيل أيضاً قتلت إبان الانتفاضة من الفلسطينيين أكثر بأربعة أضعاف مما قتلت «حماس» وغيرها من الفصائل مجتمعة من الإسرائيليين. وأخيراً في الستة عشر شهراً الماضية من فوز «حماس» في الانتخابات في كانون الثاني (يناير) 2006 إلى نيسان (أبريل) 2007 قتلت إسرائيل 712 فلسطينياً بينهم العديد من الأطفال في حين قتل الفلسطينيون في الفترة عينها 29 إسرائيلياً عسكرياً ومدنياً. وإذا ما اعتبر قتل المدنيين الأبرياء لأغراض سياسية إرهاباً فأيهما أشد إرهاباً من الآخر؟ أما «حماس» فهل تريد تدمير إسرائيل؟ لا شك في أنها تود ذلك تماماً كما تريد إسرائيل تدميرها لكن العواطف غير السياسة. فـ «حماس» الآن مشغولة بإعادة النظام إلى غزة وهي تنزع سلاح العصابات التي عاشت على الابتزاز على غرار عصابة دغمش التي تحتجز مراسل محطة «بي بي سي» آلان جونستون، وهي تهتم بالاحتياجات الملحة لمليون ونصف المليون تقريباً من السكان الممتحنين أشد الامتحان المكدسين بكثافة في بقعة صغيرة حوّلتها إسرائيل إلى أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم. وإليكم ما صرح به رئيس وزراء حكومة «حماس» والحاكم الفعلي لغزة الآن إسماعيل هنية للصحيفة الفرنسية «لوفيغارو» في الأسبوع المنصرم: «برنامجنا واضح فنحن نسعى إلى إنشاء دولة فلسطينية في حدود العام 1967 أي في غزة والضفة الغربية عاصمتها القدس الشرقية. وتبقى منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولة عن المفاوضات حول هذه المسألة ونحن نتعهد باحترام كل الاتفاقات الماضية التي وقعتها السلطة الفلسطينية ونود أن نرى بداية هدنة متبادلة ومتتابعة وشاملة مع إسرائيل». فأين كلام إيهود أولمرت أو أي من زملائه من هذا الكلام؟ وفي المقابل تخطط إسرائيل للاستمرار بل وحتى لتكثيف سياستها القاضية بإغلاق قطاع غزة. فكما جاء على لسان وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ الاثنين المنصرم: «علينا أن نستفيد من الانقسام بين غزة والضفة الغربية إلى أقصى حد فهو يفرق بين المعتدلين والمتطرفين». وحثت الوزراء على الاستمرار في عزل «حماس» مع تخفيف الضغط على «فتح» عبر إنهاء المقاطعة المالية التي استمرت 15 شهراً على الضفة الغربية. لكن هل سيكفي هذا لإنقاذ محمود عباس؟ وهل يُعقل أن تنجح سياسة إطعام الضفة الغربية وتجويع غزة؟ لا يبدو ذلك. فالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لن تقبل بنزع مئات الحواجز التي تجلب المشقة للفلسطينيين ولن توافق حركة الاستيطان القوية في إسرائيل على تجميد المستوطنات فما بالك بتفكيكها. وسيجوب القادة السياسيون الإسرائيليون الأرض والسماء لتلافي التفاوض على السلام مع العرب على أساس حدود العام 1967. وكنتيجة لذلك سيزيد مع الوقت اعتبار محمود عباس حليفاً لاسرائيل، وتستمر «فتح» بانحدارها النهائي وسيتحتم على إسرائيل وجيرانها العيش لعقود إضافية في العنف والحرب. وكما أشار لي مراقب ثاقب النظر هذا الأسبوع: «الشرق الأوسط اليوم شبيه بأوروبا عشية الحرب العالمية الأولى فشرارة واحدة كافية لإشعال المنطقة بأسرها».

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)