انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا أثار الكثير من التساؤلات على الصعيد الدولي كما أثار تساؤلات حول أسباب اختيار الفرنسيين لهذه الشخصية لترأس البلاد وتساءل الكثيرون حول العوامل التي كان لها أثرها الأكبر في فوز نيكولا ساركوزي.
كثرة هذه العوامل تجعل من الصعب تحديد العامل الفاعل في هذا الفوز، فإذا كان الفرنسيون قد اختاروه لبرنامجه في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الداخلي فلا يبدو أن ما قدمه من برنامج كافيا لإقناع الفرنسيين به، خاصة أن برنامجه كان مبهما وأن حصيلة عمله في وزارة الاقتصاد والمالية ليست لامعة.
وإذا كان انتخابه حصيلة مواقفه من الهجرة والمهاجرين وعصبيته تجاههم عند تسلمه وزارة الداخلية فهذا الأمر لا يكفي، فساركوزي عمل سنوات وبعصبية أيضا لصالح إيجاد مكان للمهاجرين المغاربة في جوقة الجمهورية الفرنسية.
وإذا كان الفرنسيون أرادوا تشجيع خطه في السياسة الخارجية فيبدو هذا متناقضا مع اجتماعهم حول سياسة الرئيس شيراك الخارجية التي استعاد فيها جزئيا مواقف الجنرال ديغول من حلف شمال الأطلسي والهيمنة الأمريكية. ولما ساروا جميعا يمينا ويسارا مع الرئيس شيراك في سياسته العربية والأفريقية والمتوسطية والعلاقات الروسية – الفرنسية والمشاريع المشتركة وفي معظم الخطوط العامة للرئيس شيراك المستوحاة من الديغولية السياسية. فالخطوط العامة لأطروحات الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي مبهمة حتى الآن ومتناقضة. الأمر الذي يجعل الرئيس المنتخب أمام تحد مواجهة تفسير وتطبيق هذه المواقف.
فساركوزي دعا لوحدة متوسطية تكون بوابة لأفريقيا وهو أمر يحتمل الكثير من التفسيرات، والكثير من التساؤلات حول من ستشملهم هذه الوحدة المتوسطية حيث يبدو واضحا أنه يستثني دول المشرق العربي المطلة على المتوسط كونها ( ليست بوابة لأفريقيا ) ويستثني تركيا التي سيناضل لإبقائها خارج أوروبا، كما يقول، رغم أن تركيا باتت لاعبا رئيسيا في المتوسط، وهذا الموقف الحاد من تركيا يدغدغ عواطف اليمنيين الأوروبيين عامة ويعزز موقع ساركوزي التفاوضي مع الولايات المتحدة في المستقبل القريب. كما أنه يجعل ملف دخول تركيا في الإتحاد الأوروبي ملفا تفاوضيا بامتياز حول الشرق الأوسط ككل وخاصة عملية السلام والملف السوري ويدخل القيادة التركية في أكبر عملية ابتزاز سياسي.
الاستثناء الضمني لبلدان المشرق العربي المطلة على البحر المتوسط وتركيا يدخل أيضا في معادلات ساركوزي الدولية حيث أن هذه المنطقة ملتهبة بأكملها وفيها الكثير من النقاط الساخنة بدءا من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراض في لبنان وسوريا مرورا بالمشروع الأمريكي الذي يترنح وصولا إلى الملف اللبناني الشائك وكلها أمور يعتقد ساركوزي أن فرنسا ليست لاعبا رئيسيا فيها، وإن أرادت الخوض أكثر فإن أمامها خياران لا ثالث لهما هما إما المواجهة مع الولايات المتحدة وهي مواجهة لا تحمد عقباها وإما الاصطفاف معها وهو أمر يفقد فرنسا حضورها بما يتناقض مع مصالحها. لذا يبدو ساركوزي مستعدا لسحب الورقة الفرنسية كليا من هذه المنطقة حتى يتسنى له وللإتحاد الأوروبي إعادة صياغة سياستهم في المنطقة وليقدم للولايات المتحدة هدية ملغومة وعلى حسابها، مراعيا في ذلك مشاعر الفرنسيين الذين يرون أن المشروع الفرنسي في المنطقة قد انحرف عن أهدافه الحقيقة لكن ساركوزي يطمح بالتعويض في مناطق أخرى خاصة في أفريقيا حيث يستند إلى لوبيات اقتصادية وسياسية هامة وهو ما يجعله يفضل خوض المعركة الخارجية هناك..
والفارق بين جاك شيراك وساركوزي في هذا المجال هو حول لبنان وسوريا وفلسطين. فموقف شيراك من سوريا ارتبط بعلاقته الشخصية بعائلة رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري ومصالحه معها وعلى هذه العلاقة بنيت كل مواقفه أما ساركوزي فلا تربطه أي علاقات بالمنطقة ومتحرر من أي مواقف مسبقة وهو بذلك يشعر أنه حر في اتخاذ الموقف الذي يريد دون التزامات مسبقة.
يبقى أن المسألة الفلسطينية ليست واضحة في خطابه السياسي وغموضها ناتج عن تناقض في مواقف المحيطين به الموزعين بين داعم لإسرائيل دون نقاش وبين غير مبال بالأمر وداع لإبعاد فرنسا عن هذا الكأس وآخرون ما زالوا متأثرين بالديغولية السياسية. وبالتالي فإن الموقف النهائي من هذه القضية سيقرره الفريق الأقوى في ( إدارة ساركوزي) أي ربما يحسمه الفريق الأطلسي في هذه الإدارة بطريقة أو بأخرى.
وساركوزي الذي تربطه علاقات وثيقة باللوبيات الاقتصادية في أوروبا يمينا ويسارا، يعرف جيدا أن لا مفر له من علاقات ما مع دول الخليج العربي الغنية والتي تشكل بالنسبة له مخرجا من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها المؤسسات الفرنسية الكبرى وهو الداعم الأول لهذه المؤسسات التي يعتبرها عصب الحياة في فرنسا يجب مراعاتها بأي ثمن. لكن دول الخليج ليست مفتوحة فثمة حراس ورجال جمارك من المارينز يفرضون شروطا على الدخول والخروج، لكن يبدو واضحا أن ساركوزي قد حصل على ضمانات بشأن تحركه الاقتصادي في المناطق التي يسيطر عليها الأمريكيون طالما أبدى استعداده لتفاهمات سياسية، فهو يرى أنه في موقع أفضل من موقع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بهذا الشأن وأنه يستطيع الآن أن يحصل على ظروف تعايش أفضل من ظروف بريطانيا في المنطقة ودون أن يكون مضطرا لتقديم تنازلات لدول الخليج تتعارض مع مواقفه المبدئية منها وهي مواقف ناقدة خاصة بعد أن خاض معارك معها بخصوص عقود كبرى لم تمررها المملكة العربية السعودية كعقد ميكسا لرقابة وحماية الحدود.
هذه العلاقة الشائكة مع دول الخليج العربية، رغم أنها لا تبدو أولوية لدى ساركوزي، إلا أنها ممر إلزامي إذا ما أراد الإبقاء على ثقة الشركات الكبرى الفرنسية والأوروبية.

مصادر
سورية الغد (دمشق)