مر الحكم بسجن المفكر والمثقف السوري ميشال كيلو ثلاث سنوات مرور الكرام، فالرجل الذي دين «باضعاف الشعور القومي» و«اثارة النعرات الطائفية» عضو في النادي الانساني الذي لم يستطع حتى الآن المجتمع العربي استقباله.

لن يكتب السياسيون العرب عن ميشال كيلو الذي ارتكب جريمة التوقيع على «اعلان» مع مثقفين سوريين ولبنانيين يدعو الى وقف اي تدخل اميركي واجنبي في شؤون المنطقة والى اقامة علاقات لبنانية سورية على قاعدة السيادة والاستقلال والى معرفة قتلة الشهيد العربي رفيق الحريري ومحاكمتهم. فهذه الجريمة تكشف ان الاشادة باميركا وغض النظر عن زيارة مفاوض سوري «غير رسمي» الى اسرائيل اخف وطأة من الدعوة الى فتح سفارة سورية في بيروت ومعرفة الحقيقة في اغتيال الحريري.

لن يكتب السياسيون، لان موضوع كيلو «داخلي» واللياقات تقتضي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، كما تقتضي المصلحة ألاّ تحصل سابقة فيرد عليها السياسيون السوريون بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى بفتح ملف هذا المعارض او ذاك المفكر القابع في السجون بلا محاكمة او المختفي في صندوق سيارة او المذوب بالاسيد.

واذا كان مثال «من بيته من زجاج لا يرمي الناس بحجارة» يسري على السياسيين العرب وان اختلفت نسب القمع وكم الافواه من دولة الى اخرى، فان معادلة اخرى تحكم صمت المحللين «العباقرة» عبر الفضائيات عن الحكم الصادر على كيلو. المعادلة اسمها «عقدة الاخصاء» الشهيرة في علم النفس حيث تترجم الفحولة العربية في البيت فقط ومع الزوجة والاولاد ضربا وقهرا وتنكيلا، لان الزوج «مخصي» معنويا من سلطة حاكمة لا يستطيع حتى التعبير اذا سمع نكتة عنها خوفا من ضبطه متلبسا بجريمة الضحك، ولانه كذلك في عمله المرتبط تطوره فيه بطريقة او باخرى بالسلطة السياسية فعليه السمع والطاعة ودخول ميدان الترقي من باب الولاء والوفاء وكتابة التقارير وفتح الاعين والآذان على «اعداء الداخل».

هؤلاء الذين يحتلون الشاشات بالهيجان والغثيان يشتمون الاميركيين والاوروبيين و«الحمائم العرب» وعينهم على التقرير الذي سيرفعه مسؤول الاعلام في هذا الجهاز المخابراتي او ذاك الى القيادة عن قدرة الاخ المحلل على التصدي لاعداء الخارج، اما وان كيلو من «اعداء الداخل» بحسب حيثيات الحكم فلا ضير من الاشارة الى ذلك، واذا كان الخجل تحرك قليلا رغم غياب الاخلاق فلا ضير من تجاهل الموضوع والتمني على مقدم البرنامج عدم التطرق اليه، من دون ان ننسى طبعا كمية رسائل المحبة السرية التي سترسل مع وسطاء الى عائلة كيلو بان الشباب يتحركون لاطلاقه بكل الوسائل وانهم لا يصعدون حملتهم الاستنكارية كي لا يعيق ذلك جهود التسوية «خصوصا ان النظام يلجأ الى التطرف في العقوبة اذا لمس تحركا ضاغطا».

وما يزيد الصورة بشاعة، صمت المثقفين الرهيب تجاه ما تعرض له كيلو، فهؤلاء الذين يفترض ان يدينوا بوجودهم في ساحاتهم لمبادئ حرية التعبير انحازوا الى ساحات اخرى حيث الصوت الواحد واللون الواحد وموسيقى طابور الصباح.

هل ناقشنا لماذا اعتقل الرجل؟ هل كتبنا عن القمع المزدهر في خريف العرب؟ هل نظمنا حملات التأييد والنصرة لزميل كل جريمته انه تجرأ وعبر عن رأي سليم وهادئ في توقيت اعتبره النظام «اضعافا للشعور القومي»؟ هل تساءلنا كيف يمكن ليساري علماني ان يسجن بتهمة اثارة النعرات الطائفية؟... الاسئلة كثيرة لكن صمتنا اكبر.

ميشال كيلو لن يدافع عنك احد. فانت كاتب ومثقف ومفكر، تحرث في الارض الخطأ وتنتظر حصادا يصعب حصوله. لا تملك كوبونات نفط توزعها على المتشدقين بالدفاع عن الحريات والديموقراطية كي يتحدثوا عنك في الفضائيات، ولا تملك مفاتيح وظيفة لمفكر السلطة ولا نفوذا لمثقفها، ولا تملك عصا رادعة تخيف بها منتقديك او المتقاعسين عن الدفاع، ولا تملك علاقات دولية تسمح لك بتقوية الشعور القومي من خلال مفاوضات «غير رسمية» مع اعداء الخارج... ولا تملك ولا تملك ولا تملك، فغيرك يملك الكثير بما في ذلك اقلام اقرب القريبين منك.

تملك قلما كبيرا وقلبا كبيرا وفكرا كبيرا...

تكفيك هذه التهم... يكفينا عار الصمت.

مصادر
الرأي العام (الكويت)