يقال «ما حافظين من العشق إلا كلمة وحشتني», وفي بلادنا لا نعرف من الصحافة إلا كلمة النشر, فكل من تمكن من الوصول إلى حبال الغسيل في صحافتنا المستورة ونشر شخبوطة في إحدى الجرائد, صار يتعامل مع نفسه ومع الآخرين على أنه صحفي, يبز حسنين هيكل بجلالة قدره. بعدها إذا حالفه الحظ بالتسلل, ونشر عشرين شخبوطة على مدى عام فطريقه إلى اتحاد الصحفيين ستصبح سالكة بسهولة, لينال شرف الانتساب إلى مؤسسة جهابذة القرطاس والقلم ليسابق الصحفيين المشحورين على انتزاع الامتيازات من فم الذئب, حتى لو بالشدودة والتنتيف.

مناسبة هذا الحديث, نشر صحيفة سورية مستقلة حواراً مطولاً مع عزمي بشارة, قالت إنه خاص بها, تبين أن الصحفي الذي أجرى الحوار لم يلتق بشارة, لأن بشارة بكل بساطة لم يلتق به, فكان عاتباً ومنزعجاً من تقويله ما لم يقله, فقد اعتمد «مولف» الحوار على حوارات وتصريحات ومقالات منشورة سابقاً ­حسب بشارة ­ من هذه التتبيلة طلع المولف العبقري بحوار حصري للصحيفة المحظوظة.

ظاهرة الصحفي «المؤلف» أو «المولف» ليست جديدة, فصحفيو «القطش واللحش» على قفا من يشيل, وهم من المبتدئين الشطار, أو العاطلين منتهزي الفرص ممن يجدون في الصحافة فرصة عمل, أو فرصة للحضور في الميدان العام. طبعاً, مع اعترافنا بحق كل إنسان في العمل والوجود في الميدان العام, لكن ذلك لا يجوز أن يكون مبرراً للتمادي في انتهاك حرمة هذه المهنة, لأن الضرب بالميت حرام. ومنعاً للالتباس, الميت هو €الحرمة€ لا €المهنة€, لأن الأخيرة لا هي حي يرزق, ولا ميت يدفن.

مع عمليات الاستنساخ والتناسل والتكاثر بالانشطار €غير النووي€ للصحف الخاصة والمواقع الالكترونية, بات من الضروري إعادة بعض الاعتبار للصحافة كمهنة وصناعة, وقد وعدنا رئيس اتحاد الصحفيين الجديد الذي سيبقى جديداً حتى يستنفد الموقع صلاحيته المقدرة بثلاثين عاماً. فالدكتور صابر ليس أحسن من غيره, المهم أن رئيس اتحادنا وعدنا بوضع معايير لتحديد من هو الصحفي, وقد آن الآوان لذلك, طالما أنه صار لدينا أكاديمية إعلامية تقيم دورات إعلامية, بالإضافة الى قسم الصحافة في الجامعة, أي أن هناك جهات يمكنها منح شهادات ووثائق تثبت أن حاملها مؤهل لممارسة المهنة, وتحمل المسؤوليات المترتبة عليها, لأن بطاقة الممارسة التي يشمط اتحاد الصحفيين ثمنها من عيوننا لا تكفي, كونها تخص المراسلين المعتمدين من وسائل خارجية, كذلك نشر عشرين مقالاً في الصحافة, نظن أنها غير كافية ليمارس أي كان هذه المهنة, مادام الكثير من الشبان يفدون إلى الصحافة من باب كتابة الرأي والتعليقات في المواقع الإلكترونية, وقد يكون هؤلاء كتاباً جيدين للرأي, لكن ذلك لا يعني أنهم قادرون على التمييز بين الأنواع الصحفية, كالخبر والرأي, أو التقرير والتحليل والتحقيق... إلخ, ولا الإحاطة بأصول وتقاليد المهنة حتى لا نقول قوانين النشر, لأن ثمة من يعجبه بقاء قانون المطبوعات والإعلام الموعود حبيس الأدراج, ولا بأس بخلط الحابل بالنابل, وفتح الباب للعبث والتجريب والتدريب, فلا بد أن يأتي يوم تنضج فيه الصحافة والصحفيون. أما كيف؟ فهذا يترك للقدر... لكن ما الذي سيقدره الله, أو يفعله مع هؤلاء المتجرئين على العبث بالحوارات والتصريحات؟! هذا شأن الله.

أما بالنسبة إلينا, فنحن نفهم أن يخطئ صحفي في نقل تصريح لمطربة لهلوبة, ويشعل فتيل الصحافة الفنية للأخذ والرد, ونتغاضى عن قيام صحفي بحوار طويل مع شخصية معروفة, ثم يقصقصه ويشتل في كل بستان زهرة منه, ليتمكن من تحصيل تكاليفه وأرباحه, ونتسامح مع صحفي يعطي الأسئلة للمحاور ليقوم هو بإعادة صياغتها وكتابة الإجابات عنها بعناية فائقة, لكن أن يتم تأليف حوار طويل عريض وهمي مع شخصية حقيقية كعزمي بشارة بكل ما يمثله من خصوصية سياسية وحساسية وطنية, فيقوله ما لم يقله, أو يستعيد أقواله القديمة لتنشر على أنها حديثة, فهذا ما لا يمكن السكوت عنه, لأن القصة اكبر من العبث وأسوأ من الاستسهال, فعدا الظروف السياسية التي يعيشها بشارة, هناك سمعة الصحفيين والصحافة السورية التي يجب وضع حد للإساءة إليها.

هل الصحافة مهنة حيوية؟! نعم, لاتصالها بحياة البشر ولتأثيرها البالغ في مصائرهم, فقصص جرائم النشر التي دمرت حياة البعض أكثر من أن تعد أو تحصى, ولولا ذلك لما وضعت القوانين والأعراف والمواثيق, التي تحصن المهنة قبل أي شيء آخر. فهي بالنهاية مهنة مثلها مثل أي مهنة أخرى كالطب والصيدلة والهندسة والمحاماة... وغيرها. فلماذا لا يسمح بممارسة تلك المهن إلا لمن حمل شهادات تثبت أهليته لها, بينما تترك الصحافة لكل من هب ودب دون وثائق تثبت حصول الصحفي على حد أدنى من علوم الصحافة, والأهم تقاليده!! أليست مسؤولية اتحاد الصحفيين أولاً ووزارة الإعلام ثانياًً, أو بالعكس؟! إذ لغاية اليوم لم يتم الاعتراف بالإعلام المستقل €مسموع ­مرئي ­مطبوع€ ولا بالإعلام الالكتروني, بل إن وزارة الإعلام تترك بكل نفس مطمئنة مهماتها لوزير الاتصالات, ليتجبر ويتكبر ويتحكم بالمواقع الالكترونية فيسمح لمن يشاء ويحجب من يشاء, فهو الآمر الناهي في رسم سياسات النشر الالكتروني, رغم الحجم الكبير الذي يحتله في الساحة الإعلامية.

الطامة الكبرى حيال هذه الفوضى, ليست وزارة الإعلام فقط, التي تتمتع بأذنين لكن واحدة من طين والأخرى من عجين, ووزيرها المشغول على طول, ولآخر الأسبوع مشغول... بل جميع المعنيين بالعملية الإعلامية غير معنيين بالإعلام ولا بحكي الجرائد, اللهم إلا ما تقوم به مكاتبهم الصحفية في التنقيب بين السطور والكلمات لتصنيف المنتقدين تحت خانات: بناء... هدام... دساس... مدسوس... فساد... مغرض... حاقد... حقود... مكيود... إلخ, ولله في خلقه شؤون.

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)