اذا كانت دعوة رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود أولمرت سوريا الى معاودة المفاوضات السياسية من دون شروط أثارت سخرية المسؤولين السوريين الذين رأوا فيها مجرد مناورة كاذبة لتطويق العملية الاسرائيلية الغامضة على أراضيهم؛ فإن ثناء اولمرت على الرئيس السوري وكلام شمعون بيريس على السلام مع سوريا لم يتركا أثراً يذكر في الأوساط الاسرائيلية بصورة خاصة الاعلامية منها.
فعلى العموم تجاهلت الصحف في تعليقاتها السياسية هذه المواقف، ولم تتوقف عندها مما يوحي بأنها لم تأخذها على محمل الجد. صحيح ان الاعلام الاسرائيلي كان مشغولاً بزيارة رايس الى المنطقة وبموضوع التحضيرات للقاء الدولي الذي من المنتظر عقده في الخريف المقبل لوضع اطار لمبادىء الحل الدائم بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، وبالتصعيد العسكري في غزة والضفة والعمليات التي قام بها الجيش هناك؛ لكن هذا لا يبرر الصمت او عدم الاهتمام الذي استقبلت به الصحف الكلام الرسمي الاسرائيلي على معاودة التفاوض مع سوريا.
قد يكون هذا الموقف هو رد فعل للإعلام الاسرائيلي على سياسة الصمت الكثيف الذي مارسته القيادة السياسية في اسرائيل من موضوع الغارة التي شنتها اسرائيل على سوريا مطلع هذا الشهر بحيث تحولت الصحافة الأجنبية والعربية الى مصدر وحيد للمعلومات بشأن ما جرى حتى زلة اللسان الأخيرة لبنيامين نتنياهو الخصم اللدود لكل من أولمرت وباراك والذي كان اول سياسي اسرائيلي يعترف علناً بوقوع الغارة. وعلى ما يبدو فان استراتيجية الصمت الراهنة هي من اقتراح وزير الدفاع باراك الذي لطالما آثر التزام اسرائيل الصمت بعد قيامها بعمليات حساسة رغبة منه في درس افضل لردود فعل الخصم المستهدف.
هذا علاوة على ان سياسة الصمت الراهنة هي ايضاً في جزء منها رد على التسريبات الكثيرة التي وقعت خلال الفترة التي تولى اثناءها وزير الدفاع السابق عمير بيريتس منصبه والتي تسببت بالكثير من الضرر والأذى للجيش الاسرائيلي وللمسؤولين خلال حرب تموز الصيف الماضي. فرغم الرقابة العسكرية الصارمة التي تمارس على وسائل الاعلام في اسرائيل لا سيما في اوقات الحروب والأزمات، فإن عدداً من المسؤولين الاسرائيليين اتهم وسائل الاعلام الاسرائيلية بأنها لعبت دوراً سلبياً ومسيئاً الى المعنويات العامة خلال الحرب بانتقاداتها العلنية لأداء الحكومة و الجيش خلال المواجهات مع "حزب الله".
واذا كانت الصحف الاسرائيلية تجاهلت دعوة اولمرت وبيريس سوريا الى المفاوضات، والتزمت سياسة الصمت ازاء العملية على سوريا، الا أنها لم تتردد في التنبيه الى عاقبة مثل هذه الخطوة وانعكاساتها على اسرائيل، وشككت كثيراً بالانطباع العام الذي خلفته هذه العملية في اوساط المسؤولين والرأي العام.ففي رأيها لا يمكن المسؤولين ان يوظفوا العملية ضد سوريا بأنها استعادة لقدرة اسرائيل على الردع التي تضررت في حرب تموز، لأن ما حدث لا بد أن يستتبعه رد عليه ايراني وسوري على اسرائيل ان تكون مستعدة له. اما الانطباع بالارتياح لدى الرأي العام الذي تُرجم بارتفاع في شعبية رئيس الحكومة ايهود أولمرت فلا يعدو أن يكون رد فعل عفوياً لدى الجمهور اليهودي في اسرائيل الذي أصيب بصدمة كبيرة في أعقاب الإخفاق الكبير للجيش الاسرائيلي في مواجهاته مع مقاتلي "حزب الله" وبدأ يشعر بالخوف الفعلي على حياته وبقاء اسرائيل، فأتت العملية الأخيرة ضد سوريا لتعيد له بعض هذه الثقة بالجيش وبالقيادة السياسية والعسكرية التي تتولى المسؤوليات.
لم تثر دعوة اولمرت سوريا الى المفاوضات رد فعل الفريق الاسرائيلي المؤيد لعودة التفاوض مع سوريا والذي منذ اليوم الأول لإندلاع المعارك في جنوب لبنان طالب الحكومة بتحريك العملية التفاوضية مع سوريا ومحاولة ابعادها عن ايران من طريق احتوائها سياسياً وليس التصادم معها ولا سيما أن ملف سلاح النووي الايراني يوحد كل دول العالم ضده. وتكثفت هذه المطالبة بعد اعلان الرئيس السوري بشار الأسد رغبة بلاده التوصل الى حل سلمي واستعداده معاودة المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها قبل سبعة اعوام. كانت ذريعة الرفض الاسرائيلي لهذه الدعوة ان الولايات المتحدة لا تؤيد التفاوض مع سوريا في هذا الوقت لأن ذلك يخرجها من العزلة السياسية المفروضة عليها، بالاضافة الى الحجة التي تقول ليس من مصلحة اسرائيل الدخول في مفاوضات مع سوريا بعد اخفاقات حرب تموز التي تعتبرها سوريا انتصاراً لها لأنها ستدخلها من موقع ضعيف.
من الواضح اليوم أن الظروف التي دفعت فئة من الاسرائيليين الى تأييد فكرة عودة بلادهم الى طاولة المفاوضات مع سوريا قد تغيرت، والا فما مبرر صمت هؤلاء اليوم. ويتضح اكثر فأكثر أن تعاطي اسرائيل مع ملف المفاوضات مع سوريا غير ممكن من دون ربطه بالملفين الساخنين: العراقي والإيراني. والمفارقة أن موضوع لبنان والأزمة الخانقة التي يتخبط فيها جراء تدخل النظام السوري في شؤونه الداخلية لا يشكلان عاملاً حاسماً للموقف
الاسرائيلي ما خلا موضوع سلاح "حزب الله" وأمن الحدود الشمالية لإسرائيل.
لذا يبدو الكلام الرسمي الاسرائيلي على الرغبة في العودة الى التفاوض مع سوريا موقفاً مبدئياً نظرياً عاماً وتالياً غير ذي دلالة علمية وفعلية. وحتى اليوم من المرجح عدم وجود رغبة لدى اسرائيل للدخول في مواجهة عسكرية مع الجيش السوري، ولكنها تعد العدة لكل الاحتمالات. وتعتبر ان اي مواجهة من هذا النوع ستكون مصيرية لأنها لن تحدد فقط مصير المنطقة وعملية السلام، وانما ستحسم موضوعات أكثر خطورة مثل مصير القوة النووية الايرانية، ورسم جديد لموازين القوى في المنطقة.

مصادر
النهار (لبنان)