يصعب إيجاد تحليل موضوعي بشأن ما حدث بين سورية والعراق، فهناك مؤشرات أو تقارير أو حتى معلومات لا يمكن الاعتماد عليها بشكل نهائي، ولكن في نفس الوقت فإن الأزمة ليست عابرة، وربما تملك عمقا أكبر مما نتوقع، وهي في أحيات كثيرة تجنح باتجاه القوة الأكثر فاعلية داخل الملف العراق، فالحديث الغربي حول "مصالح" إيرانية أو تركية في القطيعة بين بغداد ودمشق، هو في النهاية استشراف للعلاقات الإقليمية المستقبلية في حال استمرت الأزمة، أو شكلت العراق نقطة صراع إقليمي بعد انسحاب القوات الأمريكية.

بالطبع فإن الحراك الدبلوماسي الذي أعقب الأزمة يؤكد أن مثل هذه "المصالح" ربما لا تصل إلى مستوى "التعمد" لتفجير أزمة، بل ربما على العكس فإن استيعابها إقليميا يشكل نوعا من التجربة والخبرة لدول المنطقة في ظل غياب "نظام" عربي أو إقليمي قادر على التدخل، ومن جانب آخر فإن ذهاب الحكومة العراقية في اتهاماتها إلى أبعد أحد، ورفع الملف إلى مجلس الأمن، يؤكد أن الموضوع ليس فقط خلافات سياسية داخلية عراقية، بل هو تفكير سياسي يسود داخل بعض الأوساط في بغداد.

الأزمة في النهاية تتنازعها مجموعة عوامل، والطرف الذي يجري اتهامه اليوم ربما يملك أكبر قدر من "الاستيعاب" الاجتماعي والسياسي، ففي سورية ليس فقط العدد الأكبر من العراقيين الهاربين من جحيم الحرب، بل أيضا أوسع طيف سياسي عراقي، وهذا الأمر يفسر إلى حد كبير مفاصل الأزمة الناشئة وفق نقطتين:

الأولى هو أن التأثير السوري المباشر في الموضوع العراقي لم يكن الأقوى حسب التقارير الغربية، فهي تتحدث دائما عن العامل الإيراني، لكن في المقابل فإن الأزمة تظهر مع سورية سواء في المراحل الأولى للاحتلال أو اليوم، رغم أن كافة العوامل الأخرى متشابهة بالنسبة لدول الجوار العراقي، فالحدود السورية مع العراق ليست أوسع من الحدود الإيرانية أو التركية أو السعودية، والحديث عن تواجد معارضين يمكن أن ينسحب على باقي الدول وعلى الخص الأردن. هدا الأمر يعكس قلقا من مسألة التواجد السياسي العراقي في سورية، ومن كونه يشكل تيارا خاصا، وحتى لو تم إسناد الأمر لما تسميه بعض الدوائر السياسية العراقية بمسألة "حزب البعث"، لكن الواضح أن المسألة تتعدى موضوع "حزب البعث" لتطال نوعية الطيف السياسي العراقي المتواجد في سورية.

الثاني هو السياسة الدولية تجاه سورية، فالحوار مع دمشق حتى ولو تراكبت معه خلافات معقدة مع واشنطن حول العديد من الملفات، لكنه يرفع سقف احتمالات أن تصبح هذا "الطيف السياسي العراقي" جزء من الحوار، ليس بمفهوم "قوائم" المطلوبين، لأن الأهم هو إمكانية ظهور تنسيق لمراحل ما بعد الانسحاب الأمريكي، بحيث يصبح هذا "الكيف" مؤهلا للتأثير على التكوين السياسي العراقي بشكل أكبر، أو يدخل في جوهر المعادلة العراقية الداخلية. وهذا الأمر بالنسبة لبعض التيارات السياسية العراقية، وحتى لبعض الأطراف الإقليمية التي حاولت تجاهل الخلاف الحالي، سيعيد رسم الدور السوري من جديد، أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها أيضا ستجد أن أمامها أعداء سابقين أو مفترضين لكنها مضطرة للتنسيق معهم تماما كما حصل مع سورية مع الانتقال من "إستراتيجية" إلى أخرى.

بالطبع فإن الولايات المتحدة لم تتحرك بوضوح داخل الأزمة بين دمشق وبغداد، ربما لأنها تعتبرها جزء من أزمات أخرى تعمل اليوم على إيجاد مخارج لها، لكن الهم هو ان ما حصل يعاكس فيما لو تطور أكثر أن يؤثر على سياسة "التجميد" في الملفات التي اعتمدتها منذ بداية العام، فهذه الأزمة الجديدة يمكن أن تؤثر على "زخم" تعاملها مع ما يحدث في أفغانستان أو أفغانستان على الأخص إذا تفاقمت أو خرجت عن الخط السياسي الكلاسيكي للأزمات.

الاحتمالات تبقى مفتوحة اليوم أمام ما يحدث بين سورية والعراق، وربما سيستمر على مساحة من الزمن مع عدم وجود أي دبلوماسية قادرة على لجم عملية التنافس داخل العراق التي تلعب بها استراتيجية تتجاوز في كثير من الحيان دول الجوار.