ليست مجرد رواية سياسية، بل نسيج يمكن أن نضعه أمامنا مخلوط بدم حار وربما بصرخات أطفال لم تمزقهم الحروب بل الجرائم، ففتى القدس يجول في مساحة الحرم الإبراهيمي أو يدفعه "الإسرائيليون" بعيدا، ويرميه أطفالهم بالحجارة كي يرحل، لكنه يعرف أن المكان الوحيد والطبيعي له هو مدينته التي تتسرب داخل دمه، فيجول في شوارع القدس أو يحاول الذهاب مثل كل أطفال العالم إلى المدرسة، بينما تختزن ذاكرته الصور المكسرة لوطن يريد البعض تهشيمه.
وفتى غزة ربما لم يعرف الطفولة، فالشمس لوحت وجهه، والقسوة تحوم حوله، وهو يدرك أن ما رآه لم يكن كابوسا أو لهوا، رغم ان صورته تشبه ما يصفه الآخرون خلال المهرجانات والكرنفالات التي لم تعرفها غزة منذ عام 1948، لكنه فتى أو طفل أو يافع ومراهق، يعرف كل تفاصيل مدينته، ويتذكر أبنيتها قبل أن تصبح أطلالا، ويسمع من الرجال عن ملامح أطفال آخرين مستعدين أن يعيدوا عقارب الساعة للوراء، فيطيعهم آباؤهم، وينسون الدم الفلسطيني بحديث عن الجوال، وعن الاستثمارات التي تحرق الأرض، وربما تحاصر الأرواح.
في القدس وغزة فتيان لهم آباؤهم، وأيتام كبروا قبل موعدهم، وفي استثناء فريد هناك "فتى عباس"، فلكل بلد "مدلل" قادر على العبث، وعلى اقتناص الفرص، ثم تظهر السياسة على سياق الأحلام الرمادية للمدللين الذين يريدون للحياة أن تتوقف عند حدود أيديهم التي اعتادت اقتناص الفرص والفتيات والأرواح البريئة.
لا أعرف إذا كانت قصة تأجيل بحث تقرير غولدستون دقيقة، لكنها تشابه الكثير من القصص السابقة، وربما تفسر نوعية الافتراق الحاصل بين السلطة الفلسطينية والآخرين، وبين الاستثمارات الموزعة على حساب ذاكرة الانتفاضة الأولى والثانية، فنحن معتادون على "الثورات" المشبعة برائحة النفط، وعلى القرارات التي تكللها صور العملات الأجنبية والحسابات السرية، ونحن نعرف أيضا أن المال يبني العالم لكنه عندما يأتي إلينا وبطريقة خارجة عن المألوف يصبح جزءا من العهر السياسي الذي يُمارس وسط "الدم" الفلسطيني.
فتيان غزة لا يحتاجون سوى كسرات خبز تتسرب وسط الحصار، وإلى بضع طلقات يستخدمونها وقت الشدة، لكنهم متعطشون أيضا لحلم جديد يدفعهم كي يستمروا في البحث داخل مدينتهم عن أمل ينعشونه، وعن كلمة تصنع مقاوما، وربما لا تصل رواية "فتى عباس" إلى آذانهم، أو يسقطونها عندما يشاهدون طائرات الاحتلال، فهم الجيل الذي يمكن أن نشاهده يوما على مساحة الوطن وربما العقل، فيكتبون من جديد جمالا غير مسبوق، ويزيحون الكآبة والقسوة من على وجوهنا، والأهم أنهم سينعشون ضمائرنا رغم أنف "فتى عباس",