من السهولة إسناد "الدور التركي" المتطور عبر عام كامل إلى مسألة "الفراغ السياسي"، لكننا في الواقع نحتاج إلى سؤال أساسي حول هذا "الفراغ" الذي يتم اتهام عدد من الدول العربية بأنها المتسببة فيه، فتركية خلال عام كامل أقامت شبكة علاقات مع الدول العربية وبشكل يوحي بأن المنطقة قادمة على تحول أساسي في بنيتها الإقليمية، أما مسألة الفراغ فربما بدت بشكل مختلف منذ بداية العام الحالي وحتى اليوم.

ما حدث في بداية العام لم يكن فراغا بالمعنى الحقيقي، لأن الأمور سارت مع اشتداد حرب غزة باتجاه تنازع الأدوار السياسية، فـ"إسرائيل" لم تترك فراغا سياسيا بل قامت بعملية استبدال السياسة بالحرب، بينما بقي البعض مصرا على التعامل مع الموضوع على أنه "دبلوماسية" خشنة، وهذا الأمر أدى في النهاية إلى أمرين:

الأول ظهور إستراتيجية مغلقة عند بعض الدول، فالسياسة المصرية على ما يبدو وجدت نفسها خارج اللعبة فجأة عندما قررت "إسرائيل" وقف عدونها بعد أن استنزف أدواته دون ان يحقق أغراضه، بينما كانت القيادة المصرية تحاول التوسط لوقف العدوان فإن "تل أبيب" ذهبت بعيدا لتوقف الحرب بعيدا عن المبادرة المصرية، ودون الشروط التي كانت تتضمنها هذه المبادرة. وربما علينا التذكير أيضا أن العدوان على غزة انطلق بكلمات تسيبي ليفني من القاهرة تحديدا.
لم تكن السياسة المصرية سوى نموذج، لأن دول أخرى مثل السعودية ظهرت أيضا خارج السياسة بعد أن قامت "إسرائيل" بعمليات الاستبدال من خلال معادلة القوة التي انتهت فجأة ودون وضوح في الهدف أو الرؤية، والمشكلة التي ترتبت عن هذا الموضوع أن غزة المدمرة وحماس التي ظهرت كطرف ضعيف أخذت بعدا اجتماعيا وثقافيا خارج النظام العربي، وكانت تركية أكثر الدول قدرة على التعامل مع هذا البعد، علما أن إيران أيضا استطاعت أن تتعامل مع استبدال السياسة بمعادلة "القوة"، لكنها لم تكن تقدم أي جديد لأنها كانت دائما موجودة في طرف سُمي محور الممانعة

الثاني إعادة التعامل بسياسة الاستيعاب وخصوصا مع مؤتمر شرم الشيخ الذي قدم أموالا افتراضية، فلعبة القوة الإسرائيلية لم تتوقف وبالتالي فإن "الهبات" ستبقى حالة افتراضية إذا لم يتم كسر المعادلة السابقة بتوازن مختلف، والنتيجة أن الدولة التي استضافت "قمة الهبات والمساعدات" أصبحت الأكثر تشددا في عملية دخول المساعدات إلى قطاع غزة، لأن إستراتيجيتها المغلقة أصبحت محصورة في "معبر رفح"، بينما فضل النظام العربي الحفاظ على هذا الأمر خوفا من تخلخل "معادلة القوة الإسرائيلية" وبالتالي ظهور مسؤوليات إضافية عليه.
وفق هذا المشهد يبدو أن الفراغ السياسي لم يكن حالة حقيقية فتركية وقبلها إيران قامتا بإيجاد "مجال سياسي" يمكن تعبئته من قبلهم، وهو المنطقة الفاصلة بين الأدوار العربية المتناقضة، فمصر تغلق الساحة الفلسطينية عبر احتكار التماس مع نقطة التوتر أي غزة، والمثلث السعودي - السوري - المصري لم يعد قائما أو حتى مجديا في ظل الوضع الإقليمي، وهنا يمكن إيجاد نقاط اتصال جديدة لبلورة مجال إقليمي لعبت فيه أنقرة نقطة التوازن واستطاعت أن تحقق فيه مجالا حيويا إضافيا. وربما سنشهد خلال العام القادم الكثير من الاضطرابات في إيران من خلال "المعارضة" وفي تركية عبر "الحركات الكردية"، لأن المجال الذي تخلقه الدولتان يعارض معادلة القوة التي رسمتها "إسرائيل" منذ وجودها، بينما سيبقى النظام العربي يحقق إنجازاته فوق مدن الصفيح ودمار العراق وحصار غزة وأخيرا على ظلال الخلافات نتيجة مباريات كرة القدم.