سمة الاحتلال لا تقدم الصورة الكاملة لمرحلة ما بعد سقوط بغداد، فالمشهد السياسي في النهاية حمل معه صورة إقليمية، وربما احتمالات مستقبلية لا يمكن قراءتها بشكل منفرد، أو حتى فقط بما قامت به إدارة الرئيس جورج بوش بعد قراراها "احتلال العراق"، وإذا كانت عملية الاحتلال بذاتها أعادت للأذهان إمكانية التدخل المباشر لإسقاط نظام سياسي بعد أن غاب هذا الأمر عن الذاكرة السياسية، فإنها في نفس الوقت خلقت "الشك" بصورة الشرق الأوسط الذي ركب وفي سياق من "التوازن الذاتي" رغم كل التوترات التي تعصف به.

عمليا فإن الخارطة الإقليمية ظهرت مأزومة لكنها استطاعت البقاء رغم كل الظروف السياسية، فهي خارطة تم تكونها بحيث تستطيع "امتصاص" أزماتها داخليا وهو ما أثبتته الحرب الباردة التي فرزت المنطقة لكنها لم تستطع ان تفككها، إلا أن الاحتلال الأمريكي للعراق كان يحمل معه مشهدا جديدا مشروع خارطة مختلفة، ورغم ان الإدارة الأمريكية السابقة رحلت دون تحقيقها، لكن توازنات الشرق الأوسط لم تعهد كما كانت عشية سقوط بغداد، فالاستقرار أو حتى "البرود" الذي تشهده المنطقة لا يقدم مؤشرات على أن الوضع الإقليمي عاد إلى مرحلة ما قبل الاحتلال، بل يبدو من المستحيل البحث اليوم عن عوامل استقرار قديمة من خلال المصالحات العربية، أو بناء سياسات قائمة على توزع الأدوار كما في سابق.

وربما يوحي طرح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى حول دول "الرابطة الإقليمية" اعترافا أن التفاهمات الحالية أو السابقة لم تعد كافية لضمان التوازن الإقليمي، حيث تبدو الضرورة للتفكير بـ"حزام غير عربي" في محاولة لخلق التوازن داخل الشرق الأوسط عموما، وهذه الفكرة التي تحتاج دائما للنقاش تقدم مؤشرات على الأقل بأن "أمن المنطقة" لن تضمنه القوى الدولية كما فعلت سابقا خلال الحروب العربية - الإسرائيلية، أو حتى في الحرب العراقية - الإيرانية، فالتدخل العسكري المباشر مرتين كسر العوامل القديمة للأمن الإقليمي، ووضع إشارات استفهام حول توزع القوى بالشرق الأوسط بعد دخول عوامل إضافية عليه سواء عبر إيران أو تركية، وهو ما جعل احتلال العراق منفذا لفهم الاحتكاك الحقيقي ما بين خارطة المشرق العربي والحزام الذي يحيطها شرقا وشمالا.

السؤال اليوم لا يرتبط بالتواجد الأمريكي في العراق أو بـ"الفراغ" الذي يمكن أن يظهر بعد انسحاب القوات الأمريكية، بل بردود الفعل السياسية التي ظهرت نتيجة الاحتلال، وبالتغير في الميزان السياسي الذي خلق الشك بصورة الشرق الأوسط عموما حتى بالنسبة للدول القائمة حاليا، فحتى "المصالحة" التي طرحت منذ قمة الكويت تأخذ اليوم لونا مختلفا في ظل قدرة الدول على بناء علاقات خارج الإطار العربي.. فهل كانت هذه هي المهمة الأساسية التي أنجزها الاحتلال؟

عندما سقطت بغداد كان من المفترض أن يسقط معها "التفكير القديم" في مسألة الأمن الإقليمي، لكن ما حدث على مستوى الدول على أقل تقدير، باستثناء سورية، هو النظر إلى ما حدث على أنه أمر لا بد من حدوثه للعراق حصرا دون النظر إلى نوعية الخارطة السياسية المركبة والتي لا تحتمل شطب دولة من المعادلة دون اختلال المنطقة ككل، ويبدو ان عودة العراق لن تكون على نفس السياق السابق، فهي في النهاية سواء بقيت القوات الأمريكية أو انسحبت، سيغير من المشهد الشرق أوسطي عموما....