كنت أتأمل لون السماء الذي تحول، وأحاول رسم جنية على الجدار الذي أصح بلون الدخان، فعرفت أن بغداد لم تعد مسكونة في داخلي لأنها استوطنت جسدي، وأدخلتني إلى البعد الذي لم يكتشفه بعد علماء الفيزياء ومخترعو الحروب او هواة القتل المجاني.

أصبحت المروحيات جزء من عالمي، وباتت معالم المدينة قبل أن أتركها طيفا يعيد إلي الطفولة على ضفاف دجلة، وأشكال القوارب التي تربطني بزمن درسته في كتب التاريخ، لكنني استمتعت من جديد بالتنقل وبالتجول والتشرد، وبمعرفة أن الأمان في بغداد هو أمان في داخلي لا تحركه المدفعية والمروحيات ولا الأجساد الضخمة لشركات الأمن الخاصة، ففي بغداد هناك معرفة لا يمكن أن يدخلها سوى من عرف أن الاحتلال يتسرب فينا قبل أن تسقط المدن أو يتم اغتصاب المتاحف والإناث، وقبل أن يشكل المجتمع هجرته النهائية نحو زمن تختفي فيه الأسلحة الأوتوماتيكية والسيارات المفخخة وذكريات "المغفور له" أبو مصعب الزرقاوي!

ليلة سقوط بغداد مرت سريعا، وكونت لنفسها ملامح جعلتني أرسم الجنية على الجدار المخترق، واقتنعت بأن دفاتري ستهجرني، وأن وجهي يتحول إلى تفاصيل لمنفى يعيد كتابة تاريخ "العجز" و "التشرد" والتحول إلى أشباه بشر، وأنصاف مجتمعات وظلال لدول، وربما رأيت لأول مرة في حياتي "ليلة القدر"، لأن السجود والركوع كان مباحا في كل زاوية، ولم أكن أعرف هل الأيدي مكبلة والجسد راكع أم أننا أمام وضعية اغتصاب جديدة.

لم ينهك الاحتلال جسدي، ولم يتعبني الموت والجوع في أزقة الشوارع، ودخلت إلى عالم السقوط الذي أعاد تشكيل العراق، وكان باستطاعتي ان أصرخ لكن الوحشة والوحدة وضعتني على "صراط مستقيم"بين البنادق المشرقة ووجوه بيضاء تبربر وتتمتم فأتحرك على الإيحاء الذي تقدمه العيون، وأعرف أني اغتصبت قبل أن يتجاذبني الجنود، وأنني سأكتفي بنفسي حتى يستيقظ المارد في داخلي من جديد.

هي ليست مدينتي... هي نوع من "الكفر" الذي أدمناه بعد أن سقطت، وهو اكتفاء بالتعرف على ثقافة مازلنا نتابعها على الفضائيات، ونعرف أننا ننام في مضجع قاتلنا ونتربى على مشاهد نبله التي تدفعه لفضح نفسه كقاتل، ويرسم ابتسامة لأنه يمارس "ديمقراطيته" في فضح نفسه، وفي التعلق بمشاهد من سقطوا... أما أنا فأعلق صليبا جديدا على عنقي يختصر أكثر من "مليون" ممن كانوا معي يوما ثم اختفوا، بينما ستبقى صور هوليود تخترق عيوننا، ومشاهد العبث الفضائي تعيدنا إلى مساحة مخنوقة لزمن ما بعد سقوط بغداد.