المقصود هو الانطلاق بالجسد خارج المعقول، أو نمطية التعبير عما يحيط بنا كي نكسر مساحة بقيت تخنقنا بمقاييس خاصة للرقص، أو بقيم ومعايير حول الجسد، وإذا كان لعروض الرقص المعاصر التي تعرض هذه الأيام في دار الأوبرا بدمشق من صور خاصة فإنها في القدرة على الخروج من النظرة التي نحملها للتعبير الجسدي، ولامكانية تقديم ثقافة مختلفة تحمل جمالا ربما لا نستطيع التمتع به ما لم نستبدل طريقة تعبيرنا عن أنفسنا.
هناك زمن جديد في الرقص المعاصر، وهناك أيضا هروب من معيار الجمال الذي بقي يحكمنا ربما من بداية اكتشافنا لمتعة التحكم بالجسد، وتقديمه كصورة تعبيرية وليس فقط مجموعة وظائف بيولوجية، فالرقص المعاصر كما شاهدته في عرضه الأول نقلني إلى التفكير بدلا من الاسترخاء، وإلى البحث في زوايا المسرح أو في الحركات التي حاولت أن أقاربها بأنواع الرقص عند الانتقال نحو خط آخر داخل بصري، وربما اكتشفت أن الخطأ هو في المقاربة، فما أشاهده هو حالة قائمة بذاتها ولا يمكنني إلا أن أفهمها كما هي، لأنها تشكيل الحياة بألوانها المعاصرة، أو بمعاييرها التي تجاوزت ما يمكن أن يفكر فيه فنان أو مثقف أو باحث عن المعرفة في الشرق الأوسط.
في وجوه الراقصات صلات متكسرة مع عالم لم يعد مقبولا أن نتعامل بصورته القائمة، أو بواقعه الذي يفرض نفسه على تفاصيل تبقى خارج الفن، فندخل إلى الإبداع من نفس الفكرة التي جعلت الإنسان يتخيل السحر، أو يحاول إدخال الدهشة عبر قصص الجن، وهنا فإننا لا نتخيل بل نمارس، والمسألة ليست نقدا فنيا بل محاولة للدخول إلى الثقافة من نافذتها التي لم تكتمل بعد، لكنها تفتح لنا أفقا مختلفا.
كيف يمكن التجرد من مقاييس الجمال المعروفة... وكيف يصبح الجسد قادرا على الوصول إلينا دون أن يعبر حواجز بقيت قائمة منذ عقود... إنه أمر لا بد من إسقاطه على لغتنا ورؤيتنا لعالمنا، لأننا على ما يبدو فشلنا في قراءته بما نملكه من أدوات معرفية تعود الى مراحل الجمال المبكر والعشق على طريقة العصور الوسطى أو عصر النهضة أو الفرسان الذين أشبعونا رومانسية....
وكيف يمكن أن تصبح لغة الجسد بهذا الشكل المركب وربما المعبر عن نهاية "الحداثة" كما فهمناها لـ"حداثة" من نوع آخر... سؤال يبقى معلقا على عروض الرقص المعاصر.