علينا ان نكتب عن المناسبات كلما مرت، فهي بقيت معلقة وربما لم نتجاوزها، فمن علقوا على المشانق في السادس من أيار لم يسقطوا في جبهة قتال أو معركة أو حتى برصاص من كتيبة مسلحة، فما حدث كان "محاكمة فكرية" وفي المقابل كان أيضا خطا في مسألة الهوية التي حملتها "النخب" في تلك المرحلة وبقيت موجودة عند نفس النقطة التي ظهرت منها رغم تباين الحدث السياسي وظهور الدول المستقلة.
والمسألة أيضا خارج الإطار الرسمي ليست مجرد دعوة لتذكر في من فقدناهم عبر مسير الحدث السوري قبل وبعد الاستقلال، فهي تحمل أيضا تكوينا إقليميا إن صح التعبير، لأنها تعيد ربط الموضوع الثقافي ما بين بيروت ودمشق، وتكتب الحدث بشكل مختلف عن تقلبات السياسة التي بقيت تسير وكأنها مجردة عن الصراع الفكري الذي حدث في بداية القرن العشرين، رغم أننا نشهد ترابطا نوعيا دائما على مستوى "التهديد" و "المخاطر" وحتى في نوعية القلق السياسي، ففي السادس من أيار كانت نخب البلدين تواجه حالة غير مسبوقة ظهرت ضمن الصراع لرسم خارطة المنطقة، فمن يعتقد ان مسؤولية الإعدام كانت فقط لأن "جمال باشا" أراد تصفية "المعارضة" فإنه يتجاوز كل التحولات التي كانت تجتاح العالم وتعيد رسم الشرق الأوسط من جديد ضمن جغرافية ستصبح بعد عقدين "محكمة" و "مغلقة" على نفسها.
بالطبع فإن المسألة ليست "محاسبة تاريخية" أو حتى استعادة لتلك الأزمنة، فهي بالدرجة الأولى محاولة لقراءة المنطقة ككتلة تاريخية وليس مجرد جغرافية يتصارع الآخرون عليها، فشهداء 6 أيار يشكلون الصورة الأولى لحالة الخروج إلى المشاريع الحديثة عبر إعادة التفكير بكل المكونات الاجتماعية والسياسية، ورغم ان مشروعهم السياسي لم يكن يحمل "الطابع الانقلابي" لكنهم في نفس الوقت أرادوا فتح نافذة مختلفة لمسألة "الولاء للخليفة" أو "السلطنة"، فالمسألة التي بدأت عبر "مؤتمر باريس" كانت تعتبر الخطوة نحو النظر إلى المستقبل بطريقة مختلفة.
هل كانت معركتهم فكرية؟ لا يمكن الجزم اليوم بأن المسألة كانت مجرد خلق تيار جديد، هذا إذا افترضنا أنهم كانوا يطمحون بالفعل إلى رسم ملامح حياة سياسية مستقبلية، فالمسألة الوحيدة الواضحة هو ان الحداثة طرقت باب المنطقة وكانوا أول ضحاياها او شهدائها، فهم في النهاية دفعوا ثمن رؤيتهم في ظل صراع سياسي عنيف على المنطقة.
المشهد اليوم يعيدنا إليهم من بوابة مختلفة عبر انكفاء التفكير على حساب الإجراء السياسي، وربما من خلال توقف البحث عن "الهوية" وحصرها فقط داخل مشاريع سياسية تجسدها أحزاب وجدت كنتيجة منطقية للنخب التي ذهبت نحو المشانق في السادس من أيار، لكن على ما يبدو هناك "اكتفاء فكري" بما تم انجازه، وهناك أيضا رغبة دائمة في البحث داخل التطور السياسي فقط، رغم ان هذا التطور في العالم ليس منفصلا عن البحث والتفكير في بنية المجتمع أو حتى في التحولات الممكنة التي ستحدث مستقبلا.
المسألة لا تحتاج إلى تحفيز.... ولا لاعتبارها مناسبة رسمية فقط والحديث عن معنى الشهادة بشكل إنشائي، فالمجتمعات البشرية قادرة دائما على التحدي، لكنها في المقابل تحتاج إلى سؤال حول توجهها وشخصيتها وهو أمر يخص البحث وعمليات التفكير وليس فقط الإجراء او الحدث السياسي.