مهما قلنا عن وفي الماء أو المياه، لكنها تبقى في نهاية الأمر عبارة عن أرقام خرساء طرشا لا تتعاطف مع أحد ولا تشفق على أحد ولا تقدر ظروف أحد ولا تعترف بثقافة اجتماعية أو طريقة أزلية للتعامل معها، وهذه المياه / ألأرقام عبارة عن واقع مادي محسوس وإن تخيلناها مجردة، فالمرض والجوع وشح المحاصيل هي تعبير عن هذه الأرقام التي لا نأبه لها أو بها اجتماعيا وعلى صعيد ممارستنا حياتنا / ثقافتنا الاجتماعية، بحيث نتنصل من المسؤولية عن ممارستنا الأذى الاجتماعي عبر قذفنا للحاضر الى الأمام على أساس أنه مستقبل في ذات اللحظة التي يصبح فيها هذا الواقع تاريخا لا مجال لتغييره.
اليوم يبدو العالم المداري في أزمة مياه حقيقية ليس لأنها لم تستشرف أو لم تقرأ من قبل بل لأنها، استنتاج علمي عقلي تم التعامل معه والرد عليه بعقلية تقليدية تظهر فيها كل أمراض التفافة الاجتماعية من النوع المؤدي إلى الفناء، فعلى الرغم من أن أزمة المياه ليست حداثوية أو علمانية أو عولمية، إلا أن تجاهلها يبدو وكأنه اتكاء على إظهار الرفض للحداثة وللعلمنة أو حتى العولمة، وفي هذا بلاهة ثقافية واضحة، فتغيير سياسات استهلاك المياه يحتاج اليها جميعا وليس من العقلاني الوقوع في الاختناق المائي (جكارة) بالحداثة وهذا ما يحصل بالضبط في التعامل الاجتماعي مع الماء وأزمنتها، فلا أحد مضطر لتغيير سياسات استهلاكه المائي على الرغم من التهديد الفظيع الذي نتعرض له (1,8 مليون قتيل في العالم سنويا ناتج عن شح المياه وتلوثها)، ولا تغيير أنماط هذه الاستهلاك لسبب شديد البساطة، لأننا نرفض أن نعرف المجتمع بتعريفه الحداثي، ولأننا نرفض تغيير أنماط السلوك الاجتماعي بالتعامل مع الثروات الاجتماعية المشتركة بناء على استقرار وعينا بالمصلحة الاجتماعية والفردية هذه المصلحة المتغيرة (ارتقائيا) رغما عنا، إن اعترفنا بذلك أم غطينا الشمس بغربال.
ربما في أزمة المياه تبدو الدولة العربية أكثر اهتماما (وعلى الرغم من كل التخبيصات التي يمكن الكلام عنها) من الطرف المستفيد من المياه أي المجتمع، حيث لا تبدو البنية الاجتماعية مهيأة لتفهم المقدرة على تنظيم التعامل مع الثروة الوطنية، كما تبدو مستعدة لتقديم الأضاحي تدريجيا على أن تغير سلوكها ونمطها وسياساتها في إستهلاك المياه بشكل مفاجئ واضح وصريح بحيث تعبر عن معرفتها وحساسيتها ومسؤوليتها عن الثروة القومية المتناقصة قبل أن تقع الفاس بالراس.
لا شك أن اعتماد استهلاك المياه كمقياس عن التطور والتمدن والتحضر هو معيار صحيح، ولكنه أيضا سؤال تتحمل مسؤولية الإجابة عليه البنية الاجتماعية من دولة ومواطنين، فمن أين نأت بالمياه الكافية والصالحة وكيف نتصرف بها، هذا هو السؤال المعاصر وهل نحن قادرون تحمل مسؤولية الإجابة؟
والإجابة هي أن نعرف طرق الري والزراعة الحديثين، وإعادة تدوير وتنقية المياه، واستهلاكها في الحدود القصوى للاستفادة وهذه مسائل حداثية وربما عولمية تندرج في مسألة قبول الحداثة بكل ما تعنيه من معنى الثقافة الاجتماعية. الثقافة التي تستطيع أن توضح نوعية الشراكة مع باقي أفراد المجتمع وتغادر موقعها الحالي الذي (يتحلى) بمجموعة قيم فلكلورية بائدة على الأرجح، مقابل شراكة مقوننة بالثروة الاجتماعية.
هذه الثقافة العقلانية المعرفية التي تستوعب المؤثرات الأساسية ليس على أزمة شح المياه بل نظافتها، حيث لا يمكن للقول بالابتلاء أن يفسر مجموعة الأمراض الناتجة عن استهلاكنا لمياه لوثناها بأيدينا، من خلال رفضنا لثقافة البيئة الحداثية التي ندعي بقبولنا لها ولكننا وعلى أرض الواقع نمارسها وبإجحاف مرير وكأننا سوف نغادر هذه البلاد للتو وللحظة .
طبعا نستطيع القول أن أي مجتمع مسؤول عن أزماته وحلها، وطبعا أيضا سوف يصل أي مجتمع لحل أو حلول، ولكن الثمن هو المشكلة، حيث العلم والعقل في خدمة بني البشر لتخفيض أثمان حل أزماتهم وليس من الضروري أن تبور الأراضي ويعطش الناس، ويمرض الأطفال لكي نتعلم إدارة هذه الثروة الاجتماعية الحاسمة.