الكاتب : نجيب نصير

لا تبدو الدراما التلفزيونية السورية في لحظتها الراهنة قد مرت بنقد حقيقي (ولا أقصد بالحقيقي تلك الكلمة الفضفاضة التي تصف العلم أو الديمقراطية أو الإيمان الخ) يؤثر في مجراها الذي آل إلى هذه الحالة، أو استطاع هذا النقد أن يؤسس لنفسه مكانة مشروعة ( على الأقل)، ولكن وعلى ما يبدو أن النقد يشبه المنقود في غثه وسمينه، ومن هنا تبدو مؤشرات على تهافت النقد في صيغته الاعتيادية التي حصرت نفسها في المديح والقديح وفي الحالين هو من باب الدعاية والإعلان، وفي الحالين يرمى بالفارق بين الشتيمة والنقد العبارة التي يكررها جل صناع الدراما وكأنهم يحفظونها ليرددوها في كل مناسبة حتى عرف القاصي والداني أن هناك فرق بين النقد والشتيمة إلا صناع الدراما عندنا، فما زالوا يكررونها عند سؤالهم عن النقد مدافعين فيها عن أنفسهم وكأن النقد حكم بالإعدام ينقصه التنفيذ ، وعليه فقد آلت أمور النقد الى التكرار فالمواد الناقد ة للدراما التلفزيونية مواد متشابه، ويكفي أن تستبد الأسماء لكي تصبح أية مادة (نقدية) صالحة للنشر مهما تكرر الوصف والتصوف .

المهم وفي هذه اللحظة التاريخية (كل لحظاتنا تاريخية في الدراما أو غيرها) يبدو أن النقد عثر على باب جديد مرشح بقوة للتكرار والمحاسبة وللتفريق بين الشتم والنقد ، هذا الباب يتلخص بكلمة "الإساءة إلى" فهذا المسلسل يسيء إلى صورة الفتاة السورية، وذاك يسيء الى صورة السوري وثالث يسيء إلى شوفير التكسي ورابع وخامس وهكذا دواليك. حيث تعمم هذه الخلاصة النقدية كمعيار جديد (يستخدمه المصريون دائما) علينا، وطريقة طازجة (للنقاد) كي يعولوا عليها في فتح باب الحوار والسجال والمجاكرة والمطاحشة .

اليوم يتهم مسلسل (صبايا) بالإساءة إلى الفتاة السورية وإظهارها كتافهة، وكذا الى مسلسل (أبو جنتي) سائق التكسي الذي يسهل الزيجات (التطبيق)، ولأمر لا يعدم ان يرمى هذا المسلسل بالإساءة إلى صورة سوريا، أو صورة المجتمع الخ الخ . ليبدو الوصول الى هذه النقطة النقدية وكأنه إنجاز من (نقاد) يحتكرون حماية صورة الأشياء، وأن الصور بالأساس صافية براقة وإيجابية وعليهم حمايتها من الدنس ، وكأن من مهمة الدرامة تلميع صورة الإيجابي وإدانة السلبي حسب مقياس ريختر أو حسب معيار أبو عصام في باب الحارة .

المشكلة في إستخدام هذا النقد ليست في أنه ليس له معيارا نقديا من داخل الدراما المصنوعة التي تعبر عن صانعيها بأخطائهم وصوابهم الفني والفكري، بل في تكريس حال نقدي تبسيطي وحدود في النظر الى الأعمال الدرامية ، فقد يكون مسلسل صبايا أو أبو جنتي مليىء بالأخطاء التقنية والفنية وحتى الفكرية، أو قد يكون تبسيطيا من الناحية الفنية والإبداعية أو خفيفا من الناحية الفكرية، ولكن ليس مسئيا الى هذا وذاك وتلك ، وليس من المطلوب أبدا أن لا يكون مسيئا أو لا، فهذا استنساب لعامة المشاهدين كل على حدة ، وليس ( للنقاد ) ، فإذا أردنا فنيا الخضوع لشرط الواقع أو حتى إظهار الثقافة الاجتماعية المتداولة، فعلينا احتمال نتائج هذا الخضوع، الذي يعبر عن ثقافة اجتماعية غير معقمة أو مثالية (ولا نريد الخوض بالأمثلة) يفكر بها وعبرها صناع الأعمال الفنية من دراما تلفزيونية وغيرها، فأية إساءة يمكن الإشارة إليها كقيمة نقدية ما دام الفن يقول الحقيقة في حالتي الإجادة والتهافت؟؟

لم يسيء أي مسلسل الى أحد، فالعمل الفني عمل شرطي وليس ذنب صبايا أنهن جميلات (وهذا ما نفخر به كمجتمع ) ، وليس ذنب أبو جنتي أن هناك الكثير من سائقي التكاسي يقومون بذات العمل (الشريف)، فالثقافة تشكل الفرد حسب المتوفر لديه كفرد أو لدي محيطه كجماعة ، وكل هذا ليس من النقد التلفزيوني بشيء .

لا تخترعوا لنا مقاييس نقدية بلهاء تسيج الفن كحظيرة لا يمكن الخروج منها دون كدمات أو جروح ، فهي متوفرة ولا ينقصها جديد ، بل ما ينقص الدراما التلفزيونية هو مقدرتها ( هي وأهلها ) على احتمال النقد والانتقاد من أعمالها وعمايلها ، في مسعى للاستفادة منه حتى لا يبق من يستطيع أن يقدم عمل ( مسلوق أو مغشوش أو " غلا غلا " دون خوف من النقد المصفاة الوحيدة التي تستطيع التفريق بين الغث والسمين ثقافيا .