بدت ردود الفعل الأولية على مسألة الحوار الوطني في سورية وكأنها تملك معطيات متكاملة حول هذا الموضوع، فمن رفض الحوار أو البحث عن آلياته أو حتى الأطراف المشاركة فيه، أصبح الحراك السياسي محشورا عن نقطة واحدة علق البعض عليها آمالا كثيرة، بينما حاول آخرةن جعلها النقطة المستحيلة، وذلك بناء على سير الحدث السوري داخليا وخارجيا.

وبالفعل فإن الحديث عن الحوار الوطني السوري واللجنة المشكلة لمتابعته أضفت قبل ثلاث أسابيع نوعا من الارتياح ربما لم يؤثر على حركة الاحتجاج، لكنه حاول ان يضعها بمسار جديد بحيث يمكن أن تصبح "المطالب السياسية" مجال نقاش جدي مع الدولة، وتدعم مسألة "الإصلاح" الذي تعتبرها السلطة السياسية "إستراتيجية" لضمان استقرار البلد، لكن الأسابيع الثلاث الماضية لم تضع هذا لحوار على محور طبيعي يمكن أن يجعل الحراك السياسي السوري "متنوعا" وله تجليات وأبعاد مختلفة، بدلا من كونه "حركة احتجاج فقط"، بينما يتحدث البعض عن "فشل" الحوار لأسباب مختلفة.

عمليا فإن أي فشل في هذا الموضوع ربما يتعلق بعوامل تداخلت معه، وليس فقط بالمواقف التي تم إعلانها من قبل عدد من الإطراف، على الأخص أن بعض "النشطاء" اعتبروا منذ البداية أنهم ليسوا طرفا لأنهم لم "يفجروا الاحتجاجات"، وفي الجانب الآخر من الموضوع فإن ما يطلق عليه الإعلام السوري "الفعاليات الاجتماعية والشعبية" وحتى الاقتصادية في المحافظات التقت بالرئيس بشار الأسد وقدمت مطالبها، فأين يقف "الطرف المعارض" الذي من المفترض أن يجلس على هذه الطاولة طالما ان المعارضين (النشطاء) اعتبروا أنفسهم "طرفا" آخر ربما يملك نفس مطالب الحرية والديمقراطية، لكنه ليس مسؤولا عن حركة الاحتجاج الحالية!!
هناك ازمة حقيقية في تشخيص الحدث السوري، على الأخص أن الإعلام دخل منذ البداية طرفا فيها، فما بين الحدث عن "ثورة" و "مؤامرة" هناك بالتأكيد تعقيد في الحدث السوري الذي اتخذ منذ البداية مسارا مختلفا عن النماذج الذي تحمس لها الإعلام وحتى المجتمع أيضا، ومن هذه الزاوية يمكن قراء بعض العوامل الخاصة بمسألة الحوار:

الحدث السوري مهما اختلفت تسمياته فهو انطلق من النقطة التي انتهت إليها "الثورتين" المصرية والتونسية، أي أنها لم يحمل معه تلك المرونة التي تتسم بها حركات الاحتجاج الشعبية عموما، ورغم انه من الصعب اليوم البحث عن وجوه معارضة مسؤولة عن الاحتجاج لكن الواقع يقدم حالة مختلفة، فهناك حراك غير منظم لكنه في مواقفه يبدو وكأنه يستند إلى تنظيم، والبعض هنا قد يسند هذا "التشويش" إلى تصرف الدولة لكن ما حدث في البداية كان عاما ومن الواضح وجود تفاوت في رد فعل السلطة السياسية تجاهه، أو ربما في ردود فعل المتظاهرين انفسهم، فهناك مناطق لم يسقط فيها أحد لا من المتظاهرين ولا من رجال الأمن، بينما ظهرت مناطق أخرى بصور عنيفة جدا، وهو أمر يؤشر إلى صعوبة وصف "الحدث السوري" بشكل يشبه ما جرى أو يجري في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.

الحدث السوري أيضا وجد وبسرعة من يتحدث عنه من خارج سورية، أو من الداخل فإن شهود العيان أو النشطاء فكانوا يرسمون المواقف أكثر من كونهم يعبرون عن ثورة، ولم يرفض من تحدث من الداخل تدخل المعارضة السورية في الخارج على اقتناصها الظرف لتنصب نفسها "ناطقا رسميا" أو حتى منظرا لحركة الاحتجاج، ومهما اختلفنا على توصيف ما يحدث فإن دخول المعارضة في الخارج وعلى الخص الإخوان المسلمين حرم حركة الاحتجاج في بدايتها من فرز نفسها أو حتى رسم خط سياسي خاص بها، لتبدو بعد شهرين وكأنها "ظاهرة" يصعب توصيفها أو تحديدها كطرف يمكن أن يجلس على الحوار، رغم أن البعض يعتبر هذا الميزة! وآخرون يرون أنها مسيرة من الخارج!

الحدث السوري أيضا لم يكن بعيدا عن السياسات الدولية، وربما بشكل أسرع من أي دولة أخرى ظهرت المواقف الأوروبية واتخذت موقعا لها وصولا إلى فرض عقوبات وربما محاولة "عزل" للسياسة السورية، وهذا الأمر سيؤدي بشكل تدريجي إلى جعل أي حوار قادم يستند إلى طبيعة الموقف الدولي طالما أنه حكم مسبقا على مواقف جميع الأطراف.

في ظل هذه العوامل فإن "الحوار الوطني" لا يمكن أن يتخذ آلية رسمية فقط، فالمسألة ليست أزمة ثقة ما بين "المعارضة" والسلطة السياسية، بل تراكب في المشهد السوري يدفع الحوار إلى مساحة ضيقة، وفي المقابل يجعل منه "عملية طويلة" تستطيع استخدام وسائل الاتصال للخروج من "الاختناق الحاصل"، فالحوار اليوم هو "عملية بناء المعارضة"، وربما تأسيس الحراك السياسي، وهي تحتاج لأكثر من حلقة حوار، فمن يتخيل أن الحوار الوطني هو نوع من "مجلس عام" يجتمع فيه الطيف السوري، فهو يضع هذا الحوار في مكان مختلف وبظرف مختلف، فالمشهد مختلط، والحوار القادم لن يحمل آلية واحدة على الأخص في ظل غياب مرجعية محددة لمن يقوم بالاحتجاجات.