هناك دُوار البحر، أو الغثيان الذي يصيبنا دون أن ندرك السبب الحقيقي له ونحن نركب السفن، لكن مسألة "الثورة" تحتمل كل جديد أو ما هو غير مألوف حتى في "السياق التاريخي" للثورات، فعندما نتابع الخط البياني ربما علينا أن نتسلح بكل مضادات الاكتئاب أو الغثيان، لأن تشكيل مشهد حقيقي سيبدو أكثر من مجرد "دُوار" عابر أو حتى مرض مؤقت يرحل عنا بعد أن نثبت أقدامنا على الأرض.

هل يصح إطلاق "عدم التوازن" على ما يجري؟ الحدث على الأرض ربما يربك قليلا، لأننا لا نستطيع التوصل لمن هو مسؤول عن سير الأمور، ففي الوقت التي تتحدث فيه التقارير الأجنبية حصرا عن أن ما يسمى "الجيش الحر" هو مجرد مجموعات محلية حسب وكالة رويترز، فإن ممثلي هذا "الجيش" موجودون في الخارج ويتحدثون ويصرحون وبنفون مسؤوليته عن مقتل الصحفي الفرنسي، ومن جانب آخر تبدو الأسلحة في الصور التي تتناقلتها وسائل الإعلام مؤخرا للمسلحين وكأنها خارج إطار "المجموعات المحلية"، فبغض النظر عن نوعيتها إلا أنها أيضا "يصعب استنفاذها" فهي مدعومة لوجستيا من طرف "مجهول".

من هو المسؤول عن "الزغاريد" التي تظهر فجأة في الشارع عندما يتواجد "المسلحون ليسيطروا على شارع ما؟! وهل بالفعل تعتقد النسوة أنهن حققن النصر على طريقة "غزوة البرجين" حسب تعبير بيانات تنظيم القاعدة؟ وعندما تخرج تظاهرة تنادي "لبيك يا الله" فهل يعني هذا أن شعارات الحرية انتهت مع هذه التلبية التي لم تظهر في أي تظاهرة سورية منذ الاستقلال إلى المراحل الأولى من الأزمة السورية؟!

ألا يحق لي أن أصاب بالدوار من ثورة تملك من الغموض أكثر مما تمنحه لنا مرويات ابن تغري بردي في عصر المماليك، فالريف السوري كان دائما ابن التنوع دون حرج ودون أي تفكير باحتكار الشارع، أو حتى في رسم هوية تكسر البعد الاجتماعي لصالح الاتجاه نحو الازدراء أو التسطيح أو الاعتقاد بأن مسألة الرأي العام هي حالة من "الهيجاء" يمكن أن فرضها ولو بفعل الحدث.

"لبيك يا الله" التي تصدح على الجزيرة أحيانا والزغاريد التي سمعناها في تقرير لمحطة BBC ليست تزييفا للحدث لكنها التعبير الأمثل لتجليات الاضطراب المستمر، والمشحون أيضا بإيقاظ موروث يملك من الوهم و "الحمية" أكثر من القدرة على المواظبة والاستمرار، وربما من سخريات الحدث أو حتى من حالات "دُوار الثورة" أن تصبح ضيع وقرى تشكل بؤر البحث عن الحدث أو التأثير فيه بشكل مطلق، فهي كانت مستقرا لإرسال النخب إلى المدن الكبرى، وهي اليوم بؤر التوتر أو حتى استقطاب الحدث.

بعد وقت قصير ربما نعود لزيارة تلك المناطق التي كانت تشعرنا بالاطمئنان وعندها ندرك كم ظلمنا جغرافيتنا بالإهمال تارة، وبالتعسف في إنهاء الريف كحالة جغرافية وإلحاقه بالمدن الكبرى غصبا، دون أن نتعامل مع ثقافته كمناطق تملك من الخصوصية بقدر التنوع الذي ظهر فيها، لكن ما أنا متأكدة منه أن "دوار الثورة" سينتهي في لحظة إدراكنا لسورية كبلد لا يمكنه أن يخضع لمد الصحراء.