بعد إعلان الجامعة العربية لخطتها فإن تحركا سياسيا مختلفا ظهر على المسرح الدولي تجاه سورية، فجيفري فيلتمان أجرى مباحثات أمس في موسكو مع نائب وزير الخارجية الروسية ميخائبل بوغدانوف، بينما انشغل الإعلام بالحديث عن "رد روسي فاتر" حول موقف الجامعة، إضافة لخبر من روتيرز على لسان رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسي للشؤون الدولية ميخائيل مرغيلوف بأن “روسيا استنفدت كل الوسائل التي تسمح للرئيس الأسد المحافظة على وضعه القانوني في المحافل الدولية”، لكن وكالة رويترز سرعان ما تراجعت عن الخبر بعد أن تبين أنه يعود لتاريخ قديم 23 تشرين الثاني الماضي.

وتؤكد بعض المعلومات الواردة من موسكو أن مسألة التشويش على خط العلاقات بين روسيا وسورية متزامنة مع حدة المواجهة الدبلوماسية بخصوص الملف السوري داخل مجلس الأمن، وهو حسب نفس المصادر الروسية ليس منفصلا عن كل القضايا المتشابكة وعلى الأخص الملف النووي الإيراني والحظر الأوروبي على النفط الإيراني الذي سيشكل نقطة توتر جديدة في صعيد العلاقات بين طهران والدول الأوروبية.

ويظهر واضحا من سيل التصريحات الواردة خلال الأيام القليلة أن مسألة الملف السوري اتخذ مساحة أوسع مما هو متوقع، فهناك مجموعة مؤشرات تراكمت خلال الأيام القليلة وحتى قبل اجتماع الجامعة العربية:

فمن جهة أولى ظهر تصعيد واضح داخل مجلس الأمن بعد المناقشات حول مشروع القرار الروسي، فيما قام الأوروبيون بحملة واسعة من أجل الالتفاف على المشروع الروسي، وتبع ذلك تصريحات حادة لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تناول فيها بالتحديد موقع الأزمة السورية، وفصلها عن مجموعة المسائل التي يتم طرحها من خلال المسؤوليين في واشنطن وأوروبا وعلى الأخص في موضوع صفقات السلاح الروسية إلى سورية.
عشية إصدار الجامعة العربية لخطتها تم تسريع معلومات عن صفقة سلاح جديدة لسورية تتضمن طائرات تدريب حديثة، وهو ما دفع التصريحات من جديد لتطفو على مساحة الأزمة المتفاقمة بخصوص الموقف الروسي بشأن الأزمة السورية.
لم يتضح الموقف الروسي بالكامل بشأن "المبادرة العربية"، فالتركيز الروسي بقي على نفس المحور المتعلق بـ"الحوار" وعدم "التدخل الأجنبي"، رغم أنه بقي أيضا على ترحيبه بالدور العربي.
من جانب آخر فإن وصف وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحفي أمس الموقف الروسي بـ"الحار" وضع التفسيرات الإعلامية للعلاقات بين موسكو ودمشق ضمن منطقة غائمة وربما غير قادرة على التعامل مع الآليات السياسية لروسيا على الأخص ان الأزمة السورية وضعتها بشكل مباشر أمام تحديات متكاملة، وأعاد رسم خطوط الأدوار الدولية دون أن يعني هذا الأمر جبهات تقليدية كتلك التي كانت أيام الحرب الباردة، فالقضية اليوم مرتبطة بأبعاد معقدة ما بين توزع المصالح الدولية، واستخدامها للنفاذ باتجاه روسية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية بالتحديد، حيث تدرك موسكو أن أدوارها السياسية مرتبطة بالمواجهة الدولية مع قوى اقتصادية وهو ما يجعل دول "البريكس"، وروسيا جزء منها، تنظر إلى هذا التحدي بتركيز واضح لأنه سيمثل إحدى المواجهات الأساسية.

التشويش على خط موسكو – دمشق ربما يحمل معه صورة للعمق العام الذي تتخذه الأزمة السورية، رغم أنها تبدو بحجمها وظروفها محلية، لكنها في المقابل تحدد مسار "الزمن السياسي" القادم وهذا ما يؤكده اندريه فورسوف، حيث نقلت صحيفة "كراسنايا زفيزدا" الخاصة بوزارة الدفاع الروسية مقالة لهذا الفيلسوف والمفكر يعبر فيها عن رؤيته للأحداث التي تشهدها الساحة الدولية، وسورية على وجه الخصوص. إذ يعتبر فورسوف أن سورية واحدة من دول قليلة في منطقة الشرق الأوسط التي يحكمها نظام علماني. وحظوظ إسلامييها للوصول إلى سدة الحكم فيها متواضعة للغاية. علاوة على أن سورية تتحالف مع إيران، والأسد لا يرغب في التبعية للأمريكان، والإسهام في إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط بطريقة تمكن النخبة في حلف شمال الأطلسي من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية، والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها ونفوذها. إن عالم ما بعد الأزمة لا يوجد فيه مكان لسورية بنظامها الحالي.

وفيما يتعلق بالتدخل التركي والفرنسي في الشأن الداخلي السوري، فإن سقوط سورية، إذا كان قريبا، فإنه يقوي موقع تركيا كواحدة من الدول المحورية في المنطقة. لكن هذا سيحدث فقط إذا كان السقوط قريبا فعلا، لأن استبعاد أو إضعاف سورية على المدى البعيد يعني زيادة الإملاءات الأمريكية في المنطقة عموما وعلى تركيا على وجه الخصوص.

وفي ما يتعلق بفرنسا وإيطاليا فإن الحديث هنا لا يدور عن الحكومات بقدر ما يدور عن النخب الحاكمة، التي تملك طموحات عابرة لحدودها. وهي أهداف فئوية وجيوسياسية تختلف بشكل كبير عن المصالح الوطنية للحكومات الأوروبية. ذلك أن النخبة المتنفذة في حلف شمال الأطلسي والتي يسيطر عليها الأمريكيون بالدرجة الأولى، مهتمة في اختلاق المشاكل لأوروبا الغربية كمنافسة قوية للولايات المتحدة، علما بأن جزء أوروبيا لا يستهان به من التحالف الأطلسي يساهم في هذه اللعبة. فعلى سبيل المثال، سعت هذه النخب لإيجاد كوسوفو كدولة، لكي تكون معبرا لتجارة المخدرات. وهذا يعني عمليا وجود قنبلة موقوتة في أوروبا، يمكن أن تنفجرفي أية لحظة. وبالرغم من إدراك الزعماء الغربيين لهذه الحقيقة، إلا أنهم قبلوا بها، نظراً لأن النخبة الأوروبية، تشكل جزءاً من التجمع الأطلسي، فوق الوطني، ذي النواة الأنجلوساكسونية.

ويرتبط ذلك بشكل معقد مع الأزمة المالية العالمية، ومع أزمة النظام العالمي. ولكي تحل النخبة العالمية مشاكلها، لا بد لها أن تقضي على الدول القومية، لفتح المجال أمام الشركات متعددة الجنسيات، ومعها الشركات الأمنية ـ العسكرية الخاصة، وتبدأ بممارسة الضغط على مصالح تلك الدول. فتحطيم الدول القومية، والقضاء على استقلاليتها وإنشاء مناطق للفوضى الموجهة، أو الفوضى المسيطر عليها، هي واحدة من أهم المهام الرئيسية للنخبة الشمال أطلسية في ظروف الأزمة. عند ذلك، تحاول النخبة العالمية اقناع الناس بأن الدولة قد شاخت، وعفا عليها الزمن، وأصبحت تعيق التدفق الحر والسلس للبضائع ورأس المال.

من هنا فإن ما يحصل اليوم في منطقة الشرق الأوسط ـ إنها بداية اللعبة الكبيرة في المنطقة، التي من المفترض أن تحل الكثير من مشاكل الشركات متعددة الجنسيات، لكنها لن تحل مشاكل الأزمة ذاتها. لأنها، أي الأزمة، تتسم بطابع مؤسساتي منظوماتي، ولا تنفع معها أي أساليب خاصة. لكن ذلك من الممكن أن يؤجل الأزمة ويسهلها بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات وللنخبة الشمال أطلسية.

وحسب نفس المفكر فالواضح شيء واحد، وهو أنه على بقعة صغيرة من الأرض، هي سورية، ستتقرر اليوم نتائج المعركة من أجل المستقبل، يكون الخاسر فيها من يسهو ولو للحظة.