لدينا مشكلة سياسية تحتاج إلى حل سياسي. ليس لهذا الحل غير اسم واحد هو التفاوض. المشكلة هي صراع غير محلول ترك وراءه كثيرا الضحايا وكثيرا من المطالبات، وخلف ازمة ثقة عميقة متعددة المستويات في المجتمعين الأهلي والسياسي السوريين. الصراع بين السلطة والإسلاميين الذي أخذ شكلا متفجرا بين عامي 1979و1982، وشكلا أقل تفجرا في السنوات السابقة لمجزرة المدفعية عام 1979 والتالية لمذبحة حماة في 1982، وشكل نزيز مزمن منذ أكثر من عقد ونصف هو مشكلتنا غير المحلولة. قد تختلف مواقفنا وانحيازاتنا حيال المشكلة هذه، قد تختلف الحلول التي نتصورها لها. لكن قلة منا تنكر وجود المشكلة ذاتها.

الطرفان كذلك، السلطة والإسلاميون، يلتقيان على أن الصراع لم يحسم، وأنه لا يزال معاصرنا ورفيقنا. ذكرت السلطة بذلك قبل وقت قصير حين اعتقلت الكاتب والناشط علي العبد الله (15/5) ثم أردفته بكامل أعضاء مجلس إدارة منتدى الأتاسي (24/5) قبل أن تفرج عنهم (30/5) محتفظة بالعبد الله وحده، الذي كان قد قرأ في جلسة للمنتدى مخصصة لمناقشة تصورات الإصلاح في سورية رأي المراقب العام للإخوان المسلمين. الإخوان، وهم في موقع الغرم، لا يعتبرون الصراع محسوما أيضا. ينشطون من خارج البلاد، مقدمين المبادرات والمشاريع، وحاجزين لأنفسهم موقعا في النقاش السياسي السوري، النشط نسبيا في السنوات الأخيرة.

السلطة لم تستطع إقناع المجتمع السوري بأنه ليس هناك مشكلة. لقد استطاعت إلحاق الهزيمة بالإخوان لكنها لم تنتصر. وهي لم تنتصر لأنها لم تستطع ان تفسح للمهزومين مكانا في نظامها، وتتيح لهم فرصة الاعتراف بأنهم فشلوا. أصرت على نصر مطلق مستحيل: أن تسحقهم وتجبرهم على الاعتراف بالفشل وعلى الكف عن المطالبة في آن معا. لم تستطع الحصول عليه، ولم تتمكن من إقناع المهزومين بالكف عن الوجود والمطالبة. كذلك لم تستطع الاستفادة من مبادراتهم المعتدلة لدفعهم نحو الانضواء في نظام لا يقودون وحدهم دولته ومجتمعه. هذا هدر سياسي. بالنتيجة المشكلة أبعدت وأنكرت لكنها لم تحل. تتربص بنا عند كل منعطف.

لم ينتصر النظام لأنه لا يعرف كيف ينتصر. وهو لا يعرف كيف ينتصر لأنه يظن أن سحق خصومه أهم من استيعابهم، وأن العنف أرقى من السياسة أو أكمل اشكال السياسة.

لكن النصر سياسي تعريفا. والصراع غير محلول لأنه سياسي، ولأن الصراعات السياسية لا تحل حلولا امنية. الحل السياسي يعني مفاوضات وتسوية وتنازلات متبادلة وحلول وسط بين طرفين مكتملي «الطرفية» أو الشخصية الاعتبارية. الطرفان هما نظام الحكم البعثي في سورية والإخوان المسلمون. لكن الصراع الذي جرف المجتمع السوري كله وكلفه أثمانا باهظة يحتاج إلى إطار تفاوضي أوسع، يشارك فيه المعارضون السوريون الآخرون. المؤتمر الوطني الذي اقترحه الإخوان، بين آخرين، قد يكون إطارا صالحا، لكن تحت خيمته ينبغي التمييز بين مستويين مختلفين للتفاوض. مستوى تصفية المشكلة غير المحلولة، ومستوى التواثق على اسس نظام جديد في البلاد. النظام القديم فجر المشكلة ورفض حلها.

سورية لم تعرف تفاوضا اجتماعيا وسياسيا داخليا منذ حكم حزب البعث قبل 42 عاما. هذا يعادل القول إنها لم تعرف السياسة. التفاوض مدرسة للسياسة تحتاجها سورية لتكوين طبقة سياسية كفؤ وماهرة، قادرة على قيادة دفة البلاد في منطقة وزمن مفعمين بالنواء والمخاطر. نظام الحزب الواحد، في المقابل، لم يأكل الحقوق السياسية للمواطنين وينتهك حرياتهم، بل هو أيضا الطريق الملكي لتدني مستوى النخبة السياسية، فضلا عن رعاية الفساد وتوليد العصبيات السياسية وبروز وتصدر الأحزاب العصبية ذاتها. حين يشترط البعثيون (وعلمانويون) منع تشكل أحزاب على أسس إثنية أو دينية إنما يتنكرون لنتائج سياساتهم بالذات ويسعون إلى تدفيع الشعب السوري ثمنها. هذه سياسة تقوم على لوم الضحايا، والانحياز للأقوى. لا أقول إن الأحزاب الكردية والدينية محض نتاج لنظام الحزب الواحد؛ ما أقوله إن هذه التنظيمات حل لمشكلة التمثيل غير العادل التي تنتج عن نظام يحتكر السياسة والتمثيل، ويدمر أولا الأحزاب السياسية الحديثة العابرة للطوائف والإثنايت. والنفاق يستمر اليوم: فتوعد الأحزاب «الأهلية» بحظرها قانونيا لم ينعكس تشجيعا أو تشريعا للأحزاب المدنية. بل إن حظر الأولى هو عنصر في سياسة حظر أوسع لكل اشكال الاستقلال الاجتماعي، الحديثة والتقليدية، الأهلية والمدنية، أي لكل ما قد يحد من السلطة ويحمي المجتمع.

التفاوض الداخلي معدوم في سورية. هذا لأن النظام يطابق نفسه مع المصلحة الوطنية، وينكر تاليا ضرورة وجود أو شرعية اية أطراف اخرى. ذرائع الإنكار ومرجعياته هي التي تختلف: إيديولوجية وعنفية قبل ربع قرن (تقدمية ورجعية)، وقانونية اليوم (إثنية ودينية مقابل وطنية؛ كيف ندرس حزب البعث بهذا المعنى؟). ولما كان المجتمع متعدد المصالح تعريفا، فإن الترجمة السياسية لإنكار وجود أطراف أخرى هي القمع واحتكار السلطة والسياسة والشرعية.

لاءات اليوم هي: لا تفاوض، لا اعتراف بتعدد المصالح، لا مصالحة وطنية. لكن هذا ليس حلا لأي شيء؛ إنه بالضبط المشكلة. معالجة المشكلة تقتضي الثقة بالسياسة وإعادة الاعتبار للسياسة والتوظيف في السياسة. التفاوض كحل لمشكلتنا القديمة، المزمنة، الحية، ينبغي أن يجري في سياق إعادة تأسيس نظامنا على السياسة، بما يتيح استيعابا أفضل لأية مشكلات قد تعرض في المستقبل. التفاوض الداخلي ايضا مدرسة للسياسة ولرفع مستوى النخبة السياسية وتحسين تعاطيها مع أوضاع إقليمية ودولية تزداد تعقيدا وعسرا.

استعصاء المشكلة بعد قرابة ثلاثة عقود على تفجرها، يوحي بأن آفاق الحل مرهونة بتجاوز الطرفين معا، نحو نظام سياسي مفتوح يشاركان فيه على قدم المساواة مع غيرهما.

يس هذا سهلا. لكن من قال إننا في وضع سهل اليوم؟ أو كنا في وضع سهل طوال ثلاثة عقود؟ حالنا صعبة. لذلك التفاوض ضروري. به نفتح لأنفسنا بابا للعقلانية، بعيدا عن الأصولية وعن الاستئصالية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)