القراءة السياسية للأوضاع العربية الراهنة لا تعطي أفضل فهم لها. ولا القراءة الاقتصادية والاستراتيجية والجيوسياسية. ولا مجمل القراءات الموضوعية العقلانية. قد يكون أنسب مقترب من أحوال العرب المعاصرين مقترب يرى أننا نمر في زمن أصلي معكوس، زمن رث، لا تأسيسي، غير حقيقي. سواء كان سابقا للتأسيسي، أو ناجما عن فشل صنع تأسيسية جديدة عربية أو يشارك فيها العرب، تطلق تاريخا قويا وحقيقيا. حداثتنا زمن خفيف، وكيل، سلسلة من الحركات الغامضة المخفقة. الفروق بين ما يبدو مهما وما يبدو تافها منها اقل مما يفرقها عن الحركات الواضحة الفاعلة في الغرب. مناسب، على أية حال، تجريب هذا المنظور. قد نسميه منظورا رمزيا أو حضاريا او لاعقلانيا.

مثل غيرها لا تعطي هذه القراءة أفضل فهم “ليس هناك قراءة تعطي أفضل فهم”، لكنها تساعد على إضفاء النسبية على القراءات الأخرى جميعا. ما قد يسوغ هذه النظرة ان التاريخ العربي المعاصر هو تاريخ مشتق من غيره، فاعلوه ليس من ينسب إليهم، اي العرب. هذا التاريخ لم يؤهل أطرا تراكمية جديدة، ولم يحقق قطائع خلاقة مع قديم، ولم يبدع تأسيسية جديدة، لم يحسم أمرا.

ضمن هذا المنظور يكون صدام حسين رمزا سلبيا للسلطة وليس رجل دولة، وفي الوقت نفسه ضحية لخداع الغرب. قد يكون أنور السادات قوة ثانوية لم تع أن الفشل محتوم، وأن كل نجاح مزور وغير حقيقي، وأنه مثل صدام ضحية أخرى لخيانة الغرب، وأن فشل جمال عبد الناصر هو جزء من فشل أوسع، فشل أي مسعى آخر لأن النجاح ممنوع. ربما يناسب أن نعتبر جهد ناصر حركة غامضة مخفقة قد يضيؤها ما بعدها من نهوض محتمل بعد قرن أو قرنين.

اليوم هناك زمن أصلي فقط في الغرب. وهناك معان قوية وتاريخ أصيل فقط في الغرب. وهناك “صناعة للكينونة” فقط في الغرب، مهما أمكن لهذا التعبير أن يكون متناقضا. مقابل ذلك نحن نعيش وجودا وكيلا، مخلع الأركان، ضعيفا.

التغييرات المؤثرة في الوجود العربي مصدرها الفاعل الأصيل الوحيد في عالم اليوم، الغرب. هذا أيضا جزء من قدرة أوسع: فوسع مصدر تعويق تغيير اختراقي حقيقي هو، أيضا، الغرب. من 1798 حتى أيار 1948 وحزيران 1967 ونيسان 2003، ثمة تاريخ ازاداد تعقيدا وعنادا على المقاربات العقلانية. العقدة هي شيء له أسباب، لكنه لا يزول بمحض ارتفاع الأسباب. فقد احيت لنفسها جذورا قديمة، منذ ظهور الإسلام والحروب الصليبية، وربطت ذاتها بقوى وعادات ومصالح راهنة. العقدة تزول بقطعها بالسيف أو ما يشبه ذلك. العقدة الغوردية هي العقدة، نموذج لكل عقدة.

التفاعلات المعقدة لكل من السلطة والغرب والإسلام في بلادنا ربما تحتاج إلى قرن أو أكثر لتنفتح على حلول خصبة (تمر بانحلال محتوم، كما سنلمِح، تحت). نحتاج إلى كثير من الشجاعة واليأس كي نقول ذلك. ولسنا، ربما، أحوج إلى شيء أكثر من اليأس البناء كمؤهل إعدادي للعمل العام في بلادنا. أعني باليأس البناء العيش للعمل دون تعويل على الثمار، أو «الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار»، حسب تعريف الجرجاني للحرية عند “أهل الحقيقة”، المتصوفة.

القوى الثلاث المذكورة تطفو اليوم، ومنذ قرابة عقدين، على السطح: كانت الحرب الباردة قد غطست الطرف الغربي، ونصبت دونه سياجا؛ وكان المشروع القومي العربي قد غطس الإسلام، غطس كذلك السلطة. انتهت الحرب الباردة وانهار السياج وتدفق الأميركيون، الطليعة المحاربة للغرب. وتفكك المشروع القومي لعنصرين: قوة بلا معنى جنحت أكثر وأكثر لأن تكون مطحنة للبشر، ومعنى بلا قوة جنح إلى التطابق مع الإسلام أكثر وأكثر.

الكل الآن فوق الماء. خارج هذا الثالوث ليس ثمة غير تسويات غير مستقرة و“طرق ثالثة” وتوفيقيات لا تنجب حرية ولا تعبر عن حرية. أية تسوية، اليوم، بين السلطة والغرب تثير سخط الإسلام فيتفجر عنفا. واية تسوية بين السلطة والإسلام تثير عداوة الغرب خشية أن تؤسس لاستقلالية حقيقة في مجالنا. واية تفاهم بين الغرب والإسلام يثير حنق السلطة فتختطف المجتمعات المحلية رهائن. هل يمكن إنجاز تسوية تاريخية كبرى بين الإسلام والغرب والسلطة؟ لا يمكن. الخيارات الحقيقية المتماسكة “الغرب، الإسلام، السلطة” غير مقبولة، وما قد تبدو خيارات مقبولة وعادلة “تسويات ما بينها” ليست خيارات بالمرة. غير متماسكة خصوصا. هذه مأساة الخط الثالث: هو الأصلح والأعدل لكنه ليس خيارا متماسكا حقيقيا. يفتقر إلى إمكانية الوجود. الأصح ان نقول الخط الرابع. كيف يمكن للمرء أن يكون ضد الأميركيين وضد نظام صدام حسين دون ان يجد نفسه إسلاميا؟ كيف يكون ضد الإسلاميين والسلطة في سوريا دون أن يجد نفسه اميركانيا؟ لا يمكن. ليس هناك خط رابع حاليا. هناك خطوط ثلاثة لا غير: الإسلام “هوية: دمج بلا فروق، وإقصاء بلا شراكة”؛ السلطة “حاضر مطلق بلا مشروع وبلا تاريخ، وقوة بلا معنى”، الغرب “تجديد وتهديد، حضارة وهيمنة، تفوق بمعنيين: اسبقية وطلب تبعية، أو مثال وسيطرة”.

وما لا يمكن الآن في جيل أو جيلين او عمر إنسان، قد يغدو ممكنا بعد آنات وأجيال واعمار. عمران أو ثلاثة. يكون البترول قد انتهى، ويكون الغربيون قد خف شعورهم بالذنب حيال اليهود، ويكون الإسرائيليون قد قتلوا من العرب ما يكفي لمساعدة الغربيين على التخفف من ذنب الهولوكوست؛ يكونون كذلك قد أكدوا ذاتهم بعد طول “ذلة ومسكنة” واستعادوا ثقتهم بأنفسهم تدفعهم نحو الاعتدال، يكونون، أخيرا، قد تأكدوا من عجزهم عن إخضاع العرب نهائيا، وانكشفوا قوة مثل غيرهم تحركهم الدوافع ذاتها. تعلمنوا وفقدوا استثنائيتهم.

المواجهة، اليوم، تعيد تشكيل كل من هذه الأطراف مبرزة خواصها الحربية العدوانية، ما يجعلها غير صالحة للاستناد إليها من أجل نهضة حقيقية للمنطقة وشعبها. تراجع المواجهة، وحده، هو الذي يمكن من الاستفادة من هذه الأطراف. الدعوة إلى الاستفادة من الغرب المتقدم والحر متهافتة حين يكون الغرب مهددا وعدوانيا. مسعى البناء على الإسلام الضامن لاستقلالنا واهي الأساس حين الإسلام منكفئ على الهوية أو منخرط في حرب متعددة الأشكال. إصلاح السلطة المطلقة عسير حين تكون حلا لمشكلات لا تنفتح على أفق نسبي. المشكلة أن الغرب والإسلام والسلطة حلول. حلول جزئية، مؤقتة، غير شاملة وغير عادلة، لكنها حلول شاملة وكاملة وعادلة ودائمة للبعض. فالحل الجزئي لمشكلة من وجهة نظر المجموع هو حل شامل من وجهة نظر البعض. وهكذا. هذه هي المشكلة. انتهاء المواجهة، وتاليا تحلل الأطراف، هو الشرط المسبق لبلورة خيار متماسك مختلف عنها جميعا. ولظهور إرادة مستقلة. هي اليوم متماسكة لا تترك مجالا لخيار مختلف. ولا لإرادة حرة.

انعدام خيارات أخرى، اليوم، ليس مسألة ثقافية أو فكرية، ليس مسألة اهتداء إلى خيارات أخرى أو اقتناع بها. إنه مسألة افتقارنا إلى إرادة مستقلة، تختار لنفسها دون أن تنقسم على نفسها. إذا اخترنا اليوم ننقسم، إذا اخترنا الإسلام ننقسم، وإذا اخترنا الغرب ننقسم، وإذا اخترنا السلطة تقسمنا هي. السلطة تقنع عجزنا عن الاختيار وتكرسه في الوقت نفسه. تظهر استقلالا، لكنها تفاهة مخيفة فحسب. نبقي على بعض وحدتنا بعدم الاختيار. نمنح بذلك زمام الاختيار والمبادرة وتقسيمنا للغير. ونرتاح. فعل الغرب في العرب مقبول، رغم فداحته، أكثر من فعل العرب في بعضهم. الغرب يخفي فاعليته بارتفاعه إلى مستوى القدر. قدر عبيده.

نعود لنقول إن أصل غياب الخيارات هو غياب القدرة على الاختيار. لو استطعنا أن نختار الغرب او الإسلام أو السلطة لاستطعنا أن نختار غيرها. لكننا لسنا مختارين. حيث يكون العالم تصورا لا يكون إرادة مستقلة، وحيث يكون إرداة لا يكون تصورا موحدا. حداثتنا فصام أصيل.

المشكلات التي لا تقبل حلا عقلانيا لا تمتنع على انحلال و“فساد”، بمعنى استحالة وانمساخ، وبمعنى تفكك وتفسخ. ومن لا يحل مشكلاته يتحلل هو، تتحلل إرادته ويتحلل تصوره لذاته. هذا لا مناص منه من أجل إرادة وتصور جديدين. جلي أن صورة العرب الموروثة عن الخمسينيات والستينيات وإرادتهم التي نسيمها أحيانا المشروع القومي العربي، كفا عن كونهما صالحين لتسديد خطى العرب الأحياء الملموسين. تحللهما والتحلل منهما خطوة في سياق ينفتح على تأسيسية جديدة، توحد تصور الذات واستقلال الإرادة، وتندمج قدرتها على الاختيار مع قدرتها على بناء خياراتها.

هذا مقترب لا عقلاني، حضاري بمعنى ما. للمقترب العقلاني عيوب ظاهرة حين يرد العلاقة بين القوى المذكورة إلى موازين قوى ومصالح وخطط عقلانية. هذا لا يكفي ولا يقنع.

مصادر
السفير (لبنان)