مات هايل أبو زيد. أفرج عنه في بداية العام الحالي بعد عشرين عاماً من الحبس في سجون إسرائيلية مختلفة. في السابعة والثلاثين من العمر، كان مصابا بسرطان الدم، ولم تفرج عنه الأجهزة الإسرائيلية إلا ليموت. أفرجت عنه لا من أجل ألا يموت، بل من أجل ألا يموت لديها، دأب أجهزة كثيرة أخرى لصناعة الموت في الشرق الأوسط.

اعتقل هايل عام 1985 حين كان في السابعة عشرة من عمره. مع أصدقاء له من الجولان المحتل، كان قد شارك في تكوين «حركة المقاومة السرية»، حركة المقاومة المسلحة الوحيدة في الجولان السوري منذ احتلاله في حزيران “يونيو” 1967. قامت الحركة المكونة من شبان صغار بعمليات متعددة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبلغت الذروة حين فجرت مستودعاً لذخيرة الدبابات عام 1984، قبل أن يعتقل أعضاؤها ويحكموا سنوات تجاوزت أعمارهم وفقاً لسنّة شرق أوسطية ثابتة. كان نصيب هايل أبو زيد 27 عاماً.

في مقابلة أجراها معه موقع إلكتروني سوري في نهاية الشهر الأول من العام الحالي، سأل هايل «إن كانت عظام جاسوس إسرائيلي أثمن من زهرة شباب، أو حرية، أو حياة، عشرات الأسرى الجولانيين الذين يقبعون في المعتقلات الإسرائيلية؟». في الحوار ذاته، اقترح مبادلة عظام كوهين بأسرى الجولان وبأعداد من الأسرى العرب الآخرين، و «بخاصة الأسرى ذوي الملفات الصعبة، وأخص بالذكر أولئك الأسرى من عرب 1948 والقدس، الذين ليس هناك من يطالب بهم وهم يقضون أحكاماً مؤبدة». من المبتذل القول إن اقتراحه لم يجد أدنى صدى في بلده، صمت مطبق فحسب. فالجولان «قضية» عظيمة، و «القضايا» العظيمة مصنوعة من العِظام! الأحياء لا يصنعون شيئاً ولا يفيدون في شيء.

متحدثاً عن الأسرى السوريين المتبقين في السجون الإسرائيلية (17 أسيراً)، قال هايل ابو زيد إنه لن يغفر لأحد «بمن فيهم نفسي إن رأيتهم يصلون إلى مثل الحالة التي وصلتها، وتحررت بموجبها من الاعتقال: إصابتي بسرطان الدم. أقول إذا استمر نسيانهم كما هو الآن أخشى أن يحررهم المرض. إن نسيانهم لا يقل بشاعة عن الأسر نفسه». «العبارات الأخيرة وردت في النص الأصلي من حوار أجرته معه جريدة رسمية سورية في نهاية شباط “فبراير” الماضي، وقد أوجبت الجريدة على نفسها «نسيان» تلك العبارات - وقرابة ثلثي حديث الأسير المدنف - في النسخة التي نشرتها من الحديث!»

مات هايل أبو زيد في 7 تموز “يوليو” الجاري. انضم إلى القافلة الطويلة لشهداء الاستثناء الأمني في المقتلة المستمرة التي تسمى الشرق الأوسط: استثناء لمصلحة إسرائيل واستثناء لمصلحة أنظمة الحكم العربية واستثناء لمصلحة الولايات المتحدة. الاستثناء هذا هو الطبيعة الثانية للنظام الشرق أوسطي، سجن الشعوب الحديث. لا شيء يشبه علاقة إسرائيل بالفلسطينيين والسوريين الواقعين تحت الاحتلال أكثر من علاقة المحكومين بالأنظمة الحاكمة في دول المنطقة الأخرى. تتفضل بالتعايش معهم ما استقالوا من السياسة والاحتجاج، فإن إقالتهم من الحياة ذاتها.

وجدت إسرائيل لتبقى. وكذلك أنظمة الشرق الأوسط الأخرى. الأولى جيش لديه دولة. الثانية أجهزة أمن لديها دول. الجيش يقتل الأعداء. أجهزة الأمن تقتل الأعداء أيضاً. يصادف ان أعداء أجهزة الأمن مختلفون تماماً عن أعداء جهاز الحرب الذي هو الجيش. فالجيش لا يقتل أبداً مواطنيه، أجهزة الأمن لا تقتل ابداً غير مواطنيها.

أثناء التحقيق مع هايل أبو زيد، كسر الإسرائيليون أنفه وتسببوا بخلع لوح كتفه، وفي سجونهم تراجعت قدرته البصرية حتى نسبة 10 في المئة، «لا نجد له صوراً من دون نظارات سود تستولي على ملامح وجهه»، وعانى طوال سنوات من إصابة مزمنة في عموده الفقري. شكايات مكرورة إلى درجة الابتذال في تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية عن أحوال سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين والمقاومين في المنطقة. في نظام الاستثناء، التعذيب والقتل هو القاعدة.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)