هل نجحت زيارة فؤاد السنيورة إلى دمشق؟ نعم، بمعايير المعابر الحدودية. لكن المشكلة ليست هنا فقط. إن أي حل لمشكلة الشاحنات لا يقدم جواباً على ما هو مطروح على البلدين.
ثمة نزاع مفتوح على لبنان يمثل الضغط الغربي على سوريا أداة من أدواته.

في هذا النزاع تحن دمشق إلى الصيغة السابقة للعلاقات الثنائية. ومع أنها اعترفت، بلسان كبار المسؤولين فيها، بوجود ثغرات وأخطاء فإنه من الممكن التقدير بأن التعديل لم يكن وارداً أو سهلاً. لم يعد الحنين في محله وليس من الجائز أن يملي سياسات وسلوكيات. يقتضي التسليم بأن تلك الصيغة انتهت ولا مجال لاستعادتها ولا ضرورة للتصرف تأسيساً على مرارة الاستعادة المستحيلة.

إلا أن دمشق تراقب وتواكب. هذا حقها. ومن حقها، أيضاً، أن ترسل إشارات رفض أو قبول لما يجري في بيروت. ومن واجبها أن تعلن اعتراضها على نشوء نظام معاد لها في لبنان، نظام يطارد مَن يؤمن بضرورة العلاقة السوية معها ويعزله عن مواقع المسؤولية والتأثير. أكثر من ذلك يمكن أن ينسب المرء قدراً من الوجاهة لأي تخوّف سوري من قيام نظام لبناني لا يقيم وزناً لحسابات سوريا الإقليمية، ولنزاعها المعلق مع إسرائيل، ولممانعتها الضغوط الأميركية الساعية إلى استكمال حلقات الحصار. ولا تخفي دمشق قلقها من وضع يصبح فيه لبنان ساحة مفتوحة لكل المعارضين النشيطين للنظام علماً أن عليها التمييز بين المعارضة النشطة وبين بقاء بيروت ساحة حرة، قدر الإمكان، للرأي والنشر.

إن دمشق محكومة، لعوامل كثيرة، بأن تكون طرفاً مباشراً في هذا التنازع المفتوح على لبنان. هذه حقيقة جيو استراتيجية لا مهرب منها.

لا يفيد أحداً تجاهل أن الولايات المتحدة وفرنسا تريدان زيادة نفوذهما في لبنان مع ما يعنيه ذلك لكل منهما، وبتفاوت، من تحقيق أهداف متعارضة مع ما تريده سوريا. الواقع هو أن هناك، في بيروت، مَن يصر على إغماض عينيه عن هذا المستجد مستفيداً من <<دماثة>> شكلية في تدخل دول الوصاية. إن الشعار الإجمالي لهذا التدخل الضاغط هو أن سوريا تلحق ضرراً بجيرانها اللبنانيين (كما بجيرانها الفلسطينيين والعراقيين) وإن المطلوب مد يد المساعدة لكف هذا الضرر. والتطويق لا يطال فقط أشكال التدخل المنسوبة إلى دمشق وإنما، أيضاً، القوى السياسية اللبنانية المهتمة بأفضل <<جيرة>> ممكنة والتي تعبّر عن ذلك حتى وهي تداوي آثار المرحلة السابقة وامتداداتها في الحاضر.

يرمي هذا الضغط الغربي، بتفاوت أيضاً، وكما هو معلن رسمياً، إلى أقصى تحييد ممكن للبنان عن الصراعات في المنطقة، أي، عملياً، إلى إعادة ربط البلد بهذه الأزمات من البوابة الأميركية (حجم الحضور الفرنسي الإقليمي يمنع باريس من هذا الطموح) طالما أن الارتباط بالعجلة الإسرائيلية ليس في أمر اليوم. ويسعى هذا الضغط إلى استدراج أصوات لبنانية (كما توجد أصوات عراقية وكما سبق أن وجدت أصوات فلسطينية) للارتفاع منددة باستمرار التدخل السوري لفرض جدول أعمال لا يلبي المصالح الوطنية. وثمة أصوات تنزلق إلى هذا الاستدراج في حين أن غيرها لا ينتظر، أصلاً، مَن يستدعيه.

ربما كان النموذج في رأي واشنطن وباريس هو تكرار الحالة السورية الأردنية على الثنائي السوري اللبناني. إن وضع الحدود السورية الأردنية ثانوي، وكذلك حجم التبادل التجاري طالما أن عمّان تنتهج سياسة إقليمية تعتبرها خاصة ومستقلة و<<يصدف>> أنها أقرب إلى المرغوب فيه سواء في فلسطين أو في العراق.

تملك دول الوصاية قدرة خوض التنازع. القرار 1559 أداة من الأدوات. وعود المساعدات أداة أخرى يقابلها التهديد بزيادة العقوبات. ومع الاحترام الواجب لنزاهة التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فإنه يصعب الامتناع عن الظن بأن كلاً من واشنطن وباريس لا تفكر في أفضل طريقة ممكنة للاستثمار.

ويمكن الرهان، في هذا المجال، أن دول الوصاية تطمح إلى علاقات لبنانية سورية تبقى دون سقف القطيعة الشاملة (يرتب ذلك مسؤوليات على الساعين إلى هذه القطيعة) ولكنها لا ترتقي إلى العلاقات المميزة مهما كانت ندية. ويقود ذلك إلى استحضار توصيف كان رائجاً عشية 1975 مؤداه قيام صلات اقتصادية ترتقي قدر ما تستطيع وصلات سياسية تتراجع قدر الممكن.
هذا التنازع، بل الصراع، على لبنان قائم ومستمر ولا تقدم زيارة واحدة جواباً حاسماً عنه. والواضح، حتى الآن، أن دول الوصاية كسبت الجولة الأولى المهمة فيه وأنها تنوي خوض الشوط الثاني لتثبيت كسبها. ليس غريباً، والحال هذه، أن تجيب كوندليسا رايس عن سؤال حول الموضوع بإشارتها إلى ما تحقق وتركيزها على أهميته.

إلا أن الربح بالنقاط لا يكفي. إن ما حصل في لبنان، منذ حوالى سنة، <<استقر>>، مؤقتاً، على تسوية داخلية. وهو حصل بفعل العوامل الخارجية المعروفة، وبفعل استغلال الثغرات الفادحة، وبفعل التحولات اللبنانية الداخلية في وجهيها المحق في احتجاجه والمتربص فرصة الانقضاض. إلا أن التسوية، في لحظتها الراهنة، غير مرضية للأميركيين (ولا للفرنسيين ولو بنسبة أقل). نتائج الانتخابات لم تكن، كلها، على قدر التمني، وانتخابات رئاسة المجلس سبّبت غصة، والحماية التي ضُربت حول إميل لحود ليست مستحبة، وتوازنات الحكومة ليست أفضل ما يمكن، والبيان الوزاري بدا من ماض يرفض أن يمضي. ثم جاءت رحلة السنيورة...

بكلام آخر، إن صورة لبنان من واشنطن تبدو في جوانب منها، ومع حفظ النسبة، شبيهة بصورة العراق: هل فعلنا كل ما فعلناه لكي نصل إلى هذه النتيجة؟ هل أن الولايات المتحدة معنية بتعديل التمثيل السياسي النيابي وإشراك <<حزب الله>> في الحكومة وقيام سلطة <<استقلالية>> تقول ما قاله البيان الوزاري عن المقاومة وعن <<المقر والممر>>؟ لا يحتاج المرء إلى معلومات <<سرية>> عن اجتماعات رايس في بيروت وما قالته لمحاوريها من أجل إدراك أن واشنطن ترغب في جدول أعمال داخلي تنال فيه حصتها (بالأصالة عن نفسها والنيابة عن إسرائيل) مما تحقق وكان لها حصة في إنجازه. أي كلام آخر هو كلام يحتقر تقدير الولايات المتحدة لنفسها ومصالحها واستراتيجيتها، كما يحتقر الحس السليم.

وحتى عندما يصدر عن أميركا أكثر موقف <<إيجابي>> ممكن: إن قضية السلاح ليست مطروحة الآن كمهمة عملانية... فهو لا يعني الكثير من الإيجابية. إنه نوع من ملاحظة الأمر الواقع، من البراغماتية المدركة أن الظرف غير مؤات. لكن الوجه الآخر لذلك هو، بالتأكيد، سؤال تطرحه واشنطن على القوى <<الحليفة>> أو المعتبرة نفسها <<حليفة>> (وعلى القوى المدينة لها) ويتعلق بما تفعله هذه القوى، يومياً، من أجل توفير الشروط اللازمة كي يصبح ما هو صعب الآن ممكناً غداً. من البديهي أن تكون الإدارة مهتمة، شديد الاهتمام، بكيفية بناء هذه <<الأطراف الصديقة>> ميزان القوى الجديد من أجل تحقيق أهداف تعتبرها واشنطن <<مشتركة>>.

بتعبير آخر، إن الولايات المتحدة مصممة على أن ينبني الشوط الثاني من التنازع على لبنان على نتائج الشوط الأول وألا يؤدي الوقت المستقطع إلى تحولات تهدد المهمة كلها... خاصة أن بعض اللاعبين يبدي تراخياً غير مقبول.

لقد ظهرت في جلسة الثقة تباشير <<مقلقة>> ثم جاءت الزيارة لتقدم مؤشراً <<مقلقاً>> في اتجاه آخر. والمرجح أن <<المباراة>> سوف تستأنف قريباً وسيضطر كثيرون من المشاهدين واللاعبين إلى حسم خياراتهم.

مصادر
السفير (لبنان)