يختلف اللبنانيون على أشياء كثيرة لكنهم يتفقون على ان المرحلة المقبلة ستشهد تغيرات كبيرة، ترتبط بإعلان تقرير لجنة التحقيق الدولية باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، اذ ان طبيعة المسؤوليات التي يكشفها التقرير ستحدد كيفية تعامل القوى الداخلية مع المرحلة المقبلة.

ولذلك، ليس الكلام عن تسييس تقرير ميليس او عدمه ينطلق دائماً من هاجس معرفة الحقيقة، فحسب، بل ثمة رغبات تسبق السعي الى تحديد الموقع المقبل لكل من الاطراف. لا بل يمكن القول ان عملية التسييس سابقة على اعلان التقرير. فهي بدأت فور وقوع الجريمة، من خلال الاتهامات السابقة او نفي هذه الاتهامات. اذ في الحالين لم يكن الموقف معزولاً عن العلاقة مع دمشق، سلباً او ايجاباً.

ثمة من اعتبر ان المسؤولية ثابتة، وينبغي الانطلاق منها لعزل المعطيات الاقليمية عن الوضع اللبناني. فتصبح المرحلة المقبلة مرحلة تثبيت ركائز الدولة والاصلاح ومكافحة الفساد والتنمية الخ... بعدما انسحبت سورية عسكريا من لبنان تنفيذاً للقرار الدولي الرقم 1559. وثمة من اعتبر ان المعطى الاقليمي هو الاساسي في المعادلة الداخلية، خصوصاً لجهة المواجهة مع اسرائيل وتبعاتها، بغض النظر عن طبيعة المسؤوليات في الجريمة، وإن لم يتمكن هذا الحلف في حينه من مواجهة فرض الانسحاب السوري.

هكذا اختلفت البرامج للمرحلة المقبلة، مع السعي الى تجاوز المعادلة التي جاء الانسحاب السوري في اطارها، والتي جرت الانتخابات البرلمانية في ظلها. وليس من دون دلالة ظهور اصوات على اطراف القوى الاساسية تعيد طرح اكثر البرامج جذرية وتحدياً، مع علم القائمين بها انهم يضعون انفسهم تحت طائلة القانون. فهم، بتسرع يطبع هذا النوع من الافكار الجذرية، يقفزون عن الوضع الراهن وعن التجربة المريرة للحرب.

وليس من دون دلالة ايضا ان يحمل رئيس البرلمان الذي يقود كتلة مشاركة في الوزارة على السياسة الحكومية، رابطاً بين السعي الى معالجة مشكلة التنمية والمساعدات بالوضع الامني الذي يترنح على وتيرة الاغتيالات ومحاولات الاغتيال والتفجيرات. اذ ان هذه الملاحظات لا تفصل عن الجهد الذي يبذله رئيس الحكومة المنبثقة عن الغالبية البرلمانية، وعمادها تيار المستقبل، في نيويورك من اجل إعادة وضع لبنان على خريطة الاهتمام الدولي الانمائي، وما يمكن ما يستتبعه ذلك من توفير ضمانات في البيئة اللبنانية التي ستتلقى هذه المساعدات. كما ان هذه الملاحظات لا تنفصل عن سعي رئيس الجمهورية في نيويورك الى تأكيد ان الوضع السابق والالتزامات السابقة ما تزال تحكم الوضع اللبناني.

يستخلص من ذلك، ان ثمة مساعي الى إعادة خلط الاوراق الداخلية، بما يجعل الوضع مفتوحاً على فرض نظرة جديدة للتحالفات التي أرستها الانتخابات. وذلك على نحو تتقلص فيه الى الحدود الدنيا مفاعيل تقرير ميليس في الشقين اللبناني والسوري. وذلك في مقابل الذهاب بمعطيات التقرير الى نهاياتها، وما يمكن ان تتضمنه من تفكيك لآليات الوضع السابق ومرتكزاته السياسية التبريرية.

في انتظار اعلان التقرير ومضاعفاته، يظل السؤال عن القدرة على تفادي العنف، او السؤال عن مدى تحول العنف بديلاً من التزام مقتضيات التقرير. وقد يحتاج حصول التغيير سلماً الى التزام كل الاطراف بإبقاء المؤسسات الدستورية هي الحكم، خصوصاً المجلس النيابي الذي اثبت في كل المراحل الماضية، رغم بعض الشطط، انه يظل القاسم المشترك الأكثر عقلانية في البلاد.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)