... وأنهى المحقق الدولي ديتليف ميليس تقريره عن اغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري بالقول: «ان اللجنة (الدولية التي رأسها القاضي الالماني) ترى ان جميع الاشخاص (الذين ورد اسمهم في التحقيق ويشتبه بأن لهم علاقة بالاغتيال)، بمن فيهم الذين اتهموا بجرائم، يجب ان يعتبروا ابرياء الى حين اثبات جرمهم (المشاركة في اغتيال الحريري) استناداً الى محاكمة عادلة». هذه الجملة تهدف الى تبرئة ذمة القاضي أكثر من كونها تهدف الى القاء الشك في التهمة، بعما أورد القاضي نفسه «ادلة متطابقة» وقدم أحداثاً بتواريخها، واستنتج ارتباطاً في ما بينها. لكن اصول المحاكمات يتقضي ان تكون الادانة في المحكمة وليس في حيثيات الاتهام.

وعندما علق المعني الأول بالتقرير، أي النائب سعد الحريري نجل المغدور موضع التحقيق، شدد على ان معطيات التقرير تقرب من معرفة الحقيقة في شأن الاغتيال، ليؤكد «قبوله بشكل قاطع بنتائج التحقيق وبتوصياته وبكل المندرجات التي تضمنها». واطلق مواقف تؤكد ان نتائج التحقيق «لن تكون محل مساومة داخلية او خارجية» وعدم المساومة او التسوية امام هذه الحقيقة. اي انه قرأ التقرير، بما هو سلسلة احداث سياسية واجتماعات امنية وتخطيط ولوجستيك، باشراف الجهاز الامني المشترك، اودت الى الاغتيال، وان جميع المشتركين سينالون العقاب. ولم يتوقف عند «حق البراءة»، في انتظار المحاكمة الدولية التي طالب بها والتي قد تأخذ بعض الوقت لتشكيلها وبدء عملها وصولا الى الاحكام التي ستصدرها.

من جهة اخرى، طالب الحريري الجميع بأخذ معطيات التقرير في الاعتبار واستخلاص الدروس منه، خصوصاً انه يعتبر ان نظام الوصاية ما يزال له بعض المواقع، وينبغي تالياً تحييد هذه المواقع وازالتها. وهنا ينبغي النظر الى هذا الطلب بصفته صادراً عن رئيس أكبر كتلة برلمانية صاحبة أوسع تحالف نيابي، وتالياً صاحبة قوة شعبية منبثقة عن الانتخابات الاخيرة. ويصدر الطلب عن الشخص الذي استطلع مواقف العواصم العربية والدولية الفاعلة والتي شكرها بالاسم لدعمها له.

لنضع ما اورده التقرير عن المسؤوليات للاجهزة السورية جانباً، وننظر الى كيفية امكان ترجمة معطيات التقرير على المستوى اللبناني، رغم صعوبة الفصل بين المستويين نظراً الى تشابك المسؤوليات ومستوياتها. لقد وثق التقرير، ان زعيماً صغيراً لأحد الأحياء يتصل مراراً بجميع رؤساء اجهزة النظام الأمني المشترك على هاتفهم الشخصي. اذا لم يجزم التقرير ان هذه المحادثات، رغم الشبهات في توقيتها، لم تتناول اغتيال الحريري، فانه من المستبعد ان يكون المتحدثون مهتمين بأحوال الطقس. هذا الزعيم الصغير ليس مخبراً أمنياً وإلا لتوقفت قدرته على الاتصال على موظف في الجهاز. وعندما يشرف التنظيم الذي ينتمي اليه هذا الزعيم الصغير على حملة ترهيب بالسواطير لطلاب جامعيين يحاولون التظاهر، تنكشف الآلية الفعلية التي كان يعمل بها هذا النظام. فالتبريرات المتعلقة برصد عملاء اسرائيل وحماية المقاومة تسقط دفعة واحدة.

وعندما يصل هذا الزعيم الى الرقم الهاتفي لرئيس الجمهورية، يعني ان كل ما نادى به الرئيس لحود من دولة المؤسسات وحماية الديموقراطية وحماية المقاومة الخ... لم يكن قائماً اصلاً في ظل ولايته، وان قسمه في المرتين لم يجد أي صدى لدى قادة الأجهزة، وهم الضباط الأكثر قرباً اليه.

خصوم الرئيس اميل لحود يملكون دوافع وأسباباً كثيرة للمطالبة باستقالته. لكن اتصال قبضاي حي صغير بهاتفه وحده سبب كاف ليعلن انه يستقيل من منصبه لأن النظام الأمني فرض عليه محاوراً على هذه الشاكلة، وبعدما باتت الحياة السياسية تتنقل، في عهده، بين مكاتب الضباط وقبضايات الشوراع، معتمدة تكسير الرؤوس!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)