حسم التقرير الذي قدمه القاضي ديتليف ميليس الى الامم المتحدة هوية المشتبه في اغتيالهم الرئيس رفيق الحريري بحيث أزال أي لبس، داحضا ادعاء سوريا براءتها من دمه. وتاليا فان المتهمين هم سوريون ومعهم مسؤولون لبنانيون وليسوا أي تنظيم أصولي أو دولة أخرى معادية. فأراح بذلك الساحة اللبنانية من غموض والتباس بعد انتظار مضن ورمى الكرة في ملعب سوريا التي ستُعطى، على ما تقول مصادر ديبلوماسية في بيروت، فرصة ليس لاثبات براءتها، بل من أجل تقديم المسؤولين المباشرين عن الجريمة، السياسيين منهم وغير السياسيين، لكي لا يذهب النظام كله بجريرة أشخاص. وهذه الفرصة المتاحة ستكون من خلال ضم مجلس الامن صوته الى صوت لبنان وسواه من الدول العربية والغربية الراغبة في ابعاد كأس مرة عن سوريا بدعوة دمشق الى التعاون الجدي والجدي جدا مع لجنة التحقيق الدولية في المدة الفاصلة عن انتهاء مهمتها الممددة حتى 15 كانون الاول المقبل. ذلك ان ما تعتبره دمشق تعاونا مع اللجنة، على ما شرحه مستشار وزارة الخارجية السورية للشؤون القانونية رياض الداودي، ليس كافيا ويفتقر الى الكثير من هامش الحركة والحرية الذي تحتاج اليه اللجنة للتحقق من صدقية بعض الشهادات. وفي رأي المصادر الديبلوماسية المعنية ان دمشق ستكشف في المرحلة المقبلة، ازاء المواقف الدولية التي تواجهها، قدرتها على التجاوب والتعاون أكثر مما فعلت حتى الآن وأن تقرير ميليس في صيغته الحالية كان ضروريا من أجل دفع سوريا الى تقديم الأدلة والاثباتات من أجل تبرئة صفحة بعض مسؤوليها الذين يشتبه التقرير في مسؤوليتهم عن الاغتيال.

وهذا الاقتناع الديبلوماسي مبني على معطيات تفيد ان دمشق تحاول المماطلة وعدم تسليم الاوراق التي تملك. وقد جاء تسليمها ابن أخ الرئيس العراقي السابق صدام حسين الى الاميركيين الاسبوع الماضي، بعد طرده من دمشق الى بغداد وكشفها للأميركيين مكانه في العاصمة العراقية، ليدحض تأكيداتها السابقة بالتعاون الكلي والمطلق مع الولايات المتحدة في موضوع العراق ويفضح اخفاءها أوراقا لتلعبها في الوقت المناسب.

ولفت بعض المراقبين في هذا السياق تشديد النائب سعد الحريري في رسالته الى اللبنانيين على "ان النتائج التي توصلت اليها لجنة التحقيق الدولية لن تكون محل مساومة داخلية او خارجية لأن دماء اللبنانيين دماء رفيق الحريري ورفاقه باتت منذ اليوم غير قابلة للمساومة وهي ليست معروضة لأي شكل من أشكال المقايضات السياسية". وهو الامر الذي كرره ايضا النائب وليد جنبلاط وكأنهما بذلك يسعيان الى الالتفاف على مساع او محاولات انقاذ قد يقوم بها بعض الجهات بذريعة الخوف على استقرار المنطقة اذا طاولت الاتهامات القيادة السورية العليا على نحو مباشر او غير مباشر.

وتتوقع مصادر ديبلوماسية في بيروت ان يتبنى مجلس الامن قرارا جديدا بناء على اقتراح أميركي - فرنسي يمدد مهلة عمل لجنة التحقيق في مسعى الى تبرير ممارسة مزيد من الضغوط على سوريا، رغم تمايز الموقفين الاميركي والفرنسي، اذ تحاول واشنطن استصدار قرار ثان يتجاوب والتقرير المتوقع لتيري رود – لارسن أواخر الشهر الجاري والذي سيشير الى عدم تعاون سوريا الكلي مع القرار 1559 في ما خص سحب المخابرات السورية ونزع سلاح "حزب الله" والميليشيات الفلسطينية، في حين تحاول فرنسا ابقاء التركيز على تقرير ميليس.

لكن هذا التمايز لا يلغي واقع انه مهما كان عدد القرارات الدولية التي ستعتمد ضد سوريا في المستقبل القريب جدا، فان ما يجري يضيف الكثير الى عزلة سوريا دوليا وعربيا. وتقرير ميليس يساهم مساهمة قوية في ذلك من خلال الأدلة التي عرضها في ما يزيد على 16 الف صفحة كانت نتيجة تحقيقاته، بما ينزع الكثير من مبررات الدفاع عن سوريا حتى على المستوى العربي.

وعلى هذا المستوى بالذات، ذكرت معلومات ديبلوماسية ان واشنطن أبلغت الى كل من مصر والسعودية الاسبوع الماضي انها محبطة كثيرا من سوريا في ضوء اجتماع عقد في النصف الأول من هذا الشهر في مجلس الامن القومي على مستوى المسؤولين الكبار بحث في الاحباط المتزايد من عدم قدرة واشنطن على وقف تسلل المقاتلين من سوريا الى العراق. اذ ان صورا لأقمار اصطناعية أظهرت مجموعة من هؤلاء قرب الحدود مع العراق تهم بعبور الحدود. وقد جرى البحث في سبل دفع دمشق الى تغيير سلوكها بما في ذلك احتمال الافساح في المجال امام تنفيذ عمليات عسكرية داخل سوريا. اذ ان عدم القيام بأي شيء ليس خيارا ممكنا في نظر واشنطن.

في هذا الاطار يكون تقرير ميليس، الذي لم يقدم أدلة ثابتة ونهائية على ضلوع القيادة السورية في اغتيال الرئيس الحريري، فوت على واشنطن فرصة المضي في عقوبات اقتصادية يمكن ان تؤذي سوريا فعلا في هذه المرحلة من دون استبعاد ان تعمد الولايات المتحدة الى استكمال تطبيق الاجراءات الواردة في "قانون محاسبة سوريا واستعادة لبنان سيادته"، وخصوصا ان واشنطن وقد اعتمدت مقاربة الامم المتحدة للوضع اللبناني قيدت أو ألزمت نفسها بالتوافق الدولي في هذا الاطار. لكن هذا لا يعني ان الوضع السوري ليس دقيقا جدا وخطيرا بعدما بات مسؤولون سوريون مشتبها فيهم في اغتيال الرئيس الحريري ولن يعودوا شهودا في المرحلة المقبلة من التحقيق، على ما دأبت سوريا على تكراره في الشهرين الماضيين.

مصادر
النهار (لبنان)